علي طريقة الصياد الماهر.. صادني مهرجان الإسماعيلية السينمائي لمدة أسبوع، وصادر علي أوقاتي لصالح 78 فيلماً عرضها في دورته الرابعة عشرة.. الأفلام تسجيلية طويلة وقصيرة وروائية قصيرة من النوع الذي يحمل شعار ما قل ودل، بلا أي إضافات تجعل الإيقاع يترهل والتركيز يقل. بالطبع أيضا كانت هناك أفلام جميلة من نوعية التحريك بكل تنوعاتها من رسوم القلم الرصاص إلي الرسوم بالألوان الصارمة المحددة وكأنك تحيك ثوباً وتغزل علي يديك، إلي التحريك بالكمبيوتر إلي أفلام البعد الثلاثي التي نكاد نلمس شخصياتها بأيدينا في القاعة الفسيحة لقصر ثقافة الإسماعيلية ويالها من أفلام ويالها من مناقشات حولها مع صناعها. بالطبع لم يحضروا جميعاً وإلا أصبح الأمر شاقاً علي إدارة المهرجان من أول رئيسه علي أبوشادي والفنان صلاح مرعي مديره الفني إلي مديرته عبلة سالم واداريته «خاصة التسكين» جيهان، وكابتن فريق العروض إيمان «ثلاث نساء قادرات» معهن بالطبع فريق دؤوب يعمل طوال العام من أجل هذا الأسبوع، ومن أجل هذه السينما التي تجتذب كل عام كل الموهوبين وغير الموهوبين من شبان وشابات مدارس ومعاهد السينما في العالم، يقدمون أفلامهم الأولي قبل التخرج بعام فتعلن عن قدر الموهبة التي يتمتع بها كل منهم، ومنهن، ثم في عام التخرج تأتي أفلامهم معبرة عن درجات من العقل والجنون والتمرد والاحتجاج، وبعدها، إما يواصل هؤلاء السينمائيون صناعة أفلامهم التسجيلية الطويلة والقصيرة وأفلام الرسوم المتحركة، أو تلك الروائية القصيرة، وإما ينصرفون للبحث عن منتج يقدمون من خلاله الفيلم الروائي الطويل الذي نراه في دور العرض السينمائي، وعلي شاشات التليفزيون ضمن القنوات العامة والخاصة وقنوات السينما المتخصصة. وتسألونني أين تذهب أفلام هؤلاء التي تعرض في مهرجان الإسماعيلية أو عشرات غيره من المهرجانات الدولية التي تقام للأفلام التسجيلية والقصيرة أقول لكم إنها تعرض غالباً في بيوت الثقافة والمراكز الثقافية الأجنبية وفي بعض المناسبات التي تقام من أجل التعامل مع قضية مهمة تزداد أهميتها حين تقدم من خلال فيلم وثائقي أو قصير. وفي بعض الدول الأوروبية توجد دور عرض صغيرة للأفلام من هذه النوعيات، وفي بعض قنوات التليفزيون توجد مساحات دائمة لها مثل قنوات ال «بي بي سي» «العربية» والجزيرة والعربية وهناك قناة الجزيرة الوثائقية المختصة بتقديم نوع واحد هو الأعمال التوثيقية والتسجيلية وقبلها قنوات «سكاي» وغيرها التي تخصصت في التعامل مع هذه الأعمال التي تسجل وتوثق بأسلوب علمي حركة الكون والكائنات به. في مصر يتراجع الاهتمام بالفيلم التسجيلي والوثائقي والقصير وأفلام التحريك والتجريب كلما زادت امكانيات التليفزيون المصري وزاد عدد قنواته، فقد اختفي برنامج مهم لهذه الأفلام كان يقدمه في البداية الإعلامي والمخرج شفيع شلبي بعنوان «سينما في علب» ثم تولاه بعدها الإعلامي الرائع الراحل «عبدالرحمن علي» ثم توقف.. طبعا لن نتعرض لبرامج أخري مهمة توقفت مثل «ذاكرة السينما» و«نادي السينما» لأنها عن الافلام الطويلة وهذا ليس مكان الحديث عنها لكن المفارقة هي أن التليفزيون حين كانت له قناتان فقط كان يهتم بكل أنواع السينما، وبثقافة السينما، وحين تحول إلي كيان ضخم به ثلاث شبكات من بينها قناة متخصصة للسينما لا توجد علي خريطته مساحة ثابتة لهذه الأفلام، ولا برنامج يتيم يقدمها للناس ويناقشها معهم فينصتون ويشعرون بالجدل والحوار وبالفخر لكونهم أكثر إيجابية في التعامل مع الفن من مجرد تحولهم لجمهور سلبي يأخذ وجبته ويرحل.. نعم زادت مرات عرض الفيلم التسجيلي والقصير في المؤسسات الثقافية الخاصة في مصر «في القاهرة والاسكندرية تحديداً» مثل المراكز الثقافية الإسبانية والروسية والفرنسية والبريطانية ومثل ساقية الصاوي، ولكن هذا لا يكفي لبلد الثمانين مليون مواطن ثلثاهم من الشباب والتليفزيون هو الحل، وأفلام مهرجان الإسماعيلية هذه عليها أن تذهب إلي الناس في البيوت عبر اهتمام حقيقي ومادي، يمثل جزءاً صغيراً مما يتم إنفاقه علي مسلسلات التليفزيون وعلي شراء الأفلام الطويلة المصرية والأمريكية. ولدي مائة سبب لأهمية وجود هذه الأفلام عبر الشاشة الصغيرة في أحداث التأثير المطلوب والملائم لدي الجمهور العريض تجاه موضوعات شديدة الأهمية ولابد من معالجتها بحساسية ودون إلحاح ولدي مما رأيته في المهرجان ثلاثة أفلام أقدمها كنموذج لهذه النوعيات الفنية الراقية تجاه قضية مثل قضية الانتماء للوطن، فيلمان مصريان وفيلم الماني بعنوان «لغة الوطن» اخراج ميريام أدرثن وهي شابة ألمانية من أصل تركي وضعها يشبه بطلة الفيلم التي ولدت وكبرت في بلد الهجرة ولذلك لم تشعر بأي مشكلة إلا حين حضر لمنزلها هي وأبيها أقارب من تركيا . وأثناء الزيارة تكتشف «ليلي» أنها لا تعرف شيئاً عن جذورها وموطنها الأصلي، تشعر بالعجز عن فهم الكلمات التي يتحدثون بها مع والدها ويأخذها هذا إلي حزن يدفعها للبكاء والغضب لما آل إليه حالها. أما الفيلمان المصريان فهما «يا مسافر وحدك» اخراج شادي حسين خريج الجامعة الفرنسية بالقاهرة الذي يقدم مفارقة هذا الزمان من خلال شاب يجهز أوراقه للهجرة فيكتشف أن لوالده الراحل زوجة أخري غير أمه الراحلة، يسافر إليها في الإسكندرية ليكتشف سيدة دافئة المشاعر تعيش وحيدة مع ذكريات حبها لوالده الذي تزوجته لمدة شهور منذ سنوات بعيدة، وأنفصلا حين صمم علي السفر للبحث عن حياة أفضل.. وهكذا يلتقي «ابن أبيه» بمصر مع المرأة التي مازالت صامدة تستبقي ماضياً جميلاً وتراهن عليه.. وبدون أن تعرف إن كان رهانا رابحاً أو خاسراً.. وهو ما يدفع الشاب لإعادة النظر في تكرار مسيرة أبيه، الفيلم المصري الثاني تسجيلي قصير بعنوان «قطر الحياة» اخراج شكري ذكري الذي تخرج أيضا في الجامعة الفرنسية. «لماذا هذه المؤسسة تحديدا وما الذي تقدمه في مناهجها ويفوق غيرها» وفيلمه يلتقط قصة مؤثرة، لكن يوجد مثلها الكثير في مصر من خلال رجل مسن يسكن بجوار شريط سكة حديد ويعمل في الهيئة محولجيا ولهذا يعيش وعائلته في البيت الشديد التواضع الذي توفره الهيئة للعاملين بها والذي يفتقد أغلب مقومات الحياة ومع ذلك تسير الحياة وكأنها قطار يسير بالبشر من خط البداية إلي محطتهم الأخيرة في منظومة دقيقة لا تتوقف أمام هوية هؤلاء البشر الذين يخرج من بينهم بطل الفيلم ثم محمود الذي جاء من الصعيد باحثاً عن الرزق وعمل عتالاً وشيالا وفراناً وحارساً من أجل اللقمة الحلال ثم انتهي أمره إلي السكة الحديد بعد أن زوج بناته وأصبح يعول ابناً شاباً، بطل كونج فو لا يجد عملا، وابناً أصغر طالب ثانوي ولكن الحياة تصعب عليه يوماً بعد يوم، يزيدها صعوبة ضيق المنزل الذي يتحركون فيه بصعوبة، وضيق الرزق الذي تتفنن أم العيال في تفنيطه ليسد الرمق. يواجهنا الرجل عبر الشاشة بلسان المصري الفصيح وطلة ساحرة وقدرته علي أمتلاك الحكمة في حديث مؤثر لا يطلب فيه غير الستر، وبالتحديد مكاناً أفضلاً يعيش فيه ومكان آخر يدفن فيه حين يدنو أجله.. ويرحل تاركاً في القاعة عاصفة من التصفيق والمشاعر الجياشة لشخصية شامخة تعمل بلا كلل بدون أن يشعر بها أحد.. وحين تخرج ما بداخلها من ضيق.. فهي تشكو هذا الوطن إليه.. وإلينا.. الذين نعيش نفس الهم.. علي نفس الخط الممتد طوال قطار الحياة.