استغرق مني الأمر طويلاً لاستيعاب خبر غياب الدبلوماسي المدرسة الوزير أحمد ماهر، وزمنا كأنه الدهر لاستدعاء تفاصيل هذا الفذ، فقد عرفته لما يقرب من عشرين عاما، البداية كانت عابرة بحكم عملي كمحررة دبلوماسية، مثلي مثل غيري من جيل معين من الصحفيين كانوا أو من الدبلوماسيين الذين عملوا معه في محطاته الدبلوماسية الكثيرة ما بين إفريقيا وأوروبا وآسيا «بموسكو» وكذلك بواشنطن. ولا أبالغ إن قلت إن بصمات هذا الرجل علي علاقات مصر بواشنطن في فترات حساسة كان فيها سفيرا لمصر بها مازالت واضحة وحية في كل من عرفهم سواء اتفق معهم أو اختلف. فمن لا يحب السفير ماهر! الذي إضافة لسرعة بديهيته وخلقه الرفيع وروحه المرحة، كان مثقفا عميقا لديه قدرة عجيبة علي الرد الحاسم والمنطقي دون أن يترك أثرًا سلبيا. أذكر كيف كان أحيانًا يطالبني بالتهدئة فيما كنت اسجله في تقاريري المكتوبة حول عملية السلام التي كانت تشرف عليها واشنطن أيام مبادرة الرئيس السابق كلينتون، وأزمة مباحثات الراحل عرفات مع مفاوضي إسرائيل. وهو ذاته الذي استقطع من وقته الكثير ليكتب لي بعد عودته للقاهرة وقبل توليه وزارة الخارجية محللاً وناقدا لأحد تقاريري رسالة طويلة فيها من الدقة والصياغة والتحليل ما يجعلك تتوقف طويلاً لتراجع قناعاتك، وهي نفس الرسالة التي مازلت أحتفظ بها بدرج مكتبي وهو نفس الشخص الذي يعرف جيدًا ألف باء مصالح مصر وحدود أمنها القومي. كان فخورًا إلي حد كبير بفترة عمله في الرئاسة حين ذهب إلي إعارة من الخارجية للعمل كمستشار بمكتب الرئيس السادات لشئون الأمن القومي، في فترة الإعداد السياسية الطويلة لما قبل أكتوبر المجيد وهي فترة من المحزن أن يغيب هذا الرجل تحديدًا عن حياتنا دون أن يسجلها كتابةً كما كان يتمني، وتحديدًا الفترة ما بين عامي 71 و 74 . أذكر أنني قبل خمسة أعوام تمت دعوتي لتقديم ورقة عمل أمام مؤتمر مشترك لمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية ومركز الدراسات المستقبلية حول المعطيات والنظرة الأمريكية نحو ديمقراطية الشرق الأوسط الكبير ومصير أنظمة الحكم في تلك المنطقة المترامية وفق رؤية إدارة بوش تشين، والآنسة رايس كما كان يحلو له أن يصفها، ساعتها قاطعني بسؤال عما تقصده الآنسة رايس بتعبير الفوضي الخلاقة، كان سؤاله فيه انتقاد وغضب مغلف بروحه المرحة أكثر من مجرد تساؤل. لم يخف الدبلوماسي العظيم رأيه في تلك الإدارة ولا في الآنسة رايس وممارساتها بالقول والتصريحات الصحفية التي تتضمن شيزوفرينيا سياسية عالية، فهي تارة تدلي بتصريحات حول أهداف الإدارة الأمريكية النبيلة في عهد بوش وقيم الحرية في الوقت الذي تمارس فيه سياسات كانت من شأنها تدمير بلد كالعراق ومقتل مئات الآلاف وتهجير الملايين وتدمير البنية التحتية لبلد تاريخه يعمل مائة تاريخ أمريكي فيما تبرطع الشركات الأمريكية وعملاؤها في اختلاسات لأموال ونفط وإهدار لأبسط مبادئ حقوق الإنسان. ناهيك عن موقف الإدارة ذاتها التي تبنت حل الدولتين «الإسرائيلي الأصل» دون أن تخطو خطوة واحدة في طريق السلام الحقيقي، وكان يحزنه عدم تمكن العرب من رأب الصدع المتزايد كضرورة وطنية لن تتم دون حل للانقسام الفلسطيني الفلسطيني وكان أيضًا أول من تلمس نوايا إسرائيل وواشنطن تجاه جيران العرب «أي إيران» بهدف استمرار سيادة الاضطراب بالمنطقة أو ما يسمي بالفوضي الخلاقة. لقد كان أحمد ماهر السيد بعمقه وتواضعه مدرسة لأجيال مرت ومازالت بالخارجية المصرية وكان غيابه صدمة لهم جميعًا كما عبروا عنها عبر مجموعاتهم علي الفيس بوك علي مدي الأيام القليلة الماضية سيفتقدونه.. نعم وكثيرًا ولكن داخل كل منهم بعض منه لاسيما وطنيته الحقيقية واللامحدودة. وفي رأيي لا يوجد أفضل من ذلك لتكريم ذلك الرجل البسيط والمتواضع، والذي كان معظم ما حمله معه من واشنطن بعد سنوات خدمة طويلة كتبا ثم كتبا ومجموعات أقلام كان يهوي جمعها، والأهم حب كل من عرفه بعمق أو بشكل عابر. لقد ترك رحيله مرارة في صدور هؤلاء، لم تكن موجودة قط وهو بيننا باستثناء غضب قديم عم الجميع بعد التطاول عليه في حادثة يوم زيارته للمسجد الأقصي وهو الحادث الذي لم يطق سوي أن يطلب اعفاءه من منصبه بسببها. رحم الله أحمد ماهر نعزي أنفسنا وشريكة عمره السيدة هدي العجيزي فيه.