لعلها كانت أول صفعة "مهنية" اتلقاها من نقيب النقباء الراحل ، فقد كانت صفعة من استاذ قبل ان تكون صفعة من والد .. وكانت تلك الصفعة الحرفية فقط لأنني تفوهت بعبارة بسيطة الكلمات من عندي ، مصيبة المعني عنده ، وكل ما قلته عند عرض اول موضوع عام اكتبه وقدمته له لأستطلع رأيه فيه واتعلم مما ورد فيه من اخطاء اصححها ، قلت "الصحافة الحالية صحافة قديمة ويجب ان تتغير لأن ...." ولم استطع ان اكمل عبارتي لأوضح وجهة نظري وأعرض رأيي ، فقد فوجئت حينئذ بعاصفة من الكلمات والعبارات وخطاب شديد القسوة لم اعهده في صاحب الحوار الهادئ والتحاور العقلاني الذي طالما ما كان يدعو اليه في مقالاته ، وندواته ، ولقاءاته ، وحواراته الصحفية او الاذاعية او التليفزيونية .. وللحقيقة انه حتي لم يمد يده ليقرأ فيما احمله من اوراق ، فقد كانت عبارتي السابقة هي السبب في ثورته "المهنية" وايضاً "الأبوية"، اذ استشعر من عبارتي الكارثة - كما قال - انني اريد ان ابدأ حياتي الصحفية بهدم تاريخ الصحافة في مصر لأبدأه من عندي ، وما يترجم تاريخ الصحافة الا في صحيفة وصحفي. واذا كنت انا الآن حاضر الصحافة ، فمستقبلها عند زميل آخر غداً ، ونحن الاثنان امتداد لتاريخ طويل عريق من الصحف المصرية والصحفيين المصريين الذين تتلمذ علي اياديهم كل صحفيي الوطن العربي دون استثناء ومن دروس الصحفي المصري اصدروا - وما زالوا يصدرون - المئات من الصحف والمجلات .. فمن لا يملك ماضيه لا يستطيع ان يصيغ حاضره ويصنع مستقبله .. اقرأ تاريخ مهنتك قبل ان تكون واحداً من ابنائها ، واقرأ تضحيات اساتذتك قبل ان تهيل التراب علي تاريخهم فيجيء من بعدك ويستن سنتك يقذفك بالطوب انت ومن سبقك فتكون انت صاحب هذا الحجر ، وان كنت لم تلقه بيدك فانت السبب في وضعه في يد الصحفي الذي اتي من بعدك ، قبل ان تبدأ اولي خطوات مهنتك اقرأ تاريخ جريدة الأهرام التي صدرت قبل اكثر من مائة وخمس وثلاثين عاماً مضت ، ادرس حياة سليم وبشارة تقلا مؤسسيها ، اقرأ تاريخ مجلة روز اليوسف التي ظهرت علي يد السيدة روز اليوسف قبل اكثر من ثمانين عاماً مضت لتؤسس صحافة حرة جديدة متجددة ، اقرأ تاريخ الصحافة في اخبار اليوم ونضال الأساتذة مصطفي وعلي امين ، اقرأ وحاول ان تستفيد من تاريخ جريدة الجمهورية التي كانت تلقب بجريدة الثورة والتي صدرت منذ ما يقرب من ستين عاماً وكانت برئاسة الزعيم المناضل انور السادات. اقرأ عن اساتذة الصحافة واحفظ تاريخ نضالهم لتأسيس صحافة مصرية رائدة بمعني الكلمة لتعرف أن التاريخ لا يبدأ من عندك ، ولكنك من المفترض ان تكون امتداداً لهم تبدأ حياتك وانت تدعو الله ان يسترك بنضالهم وكفاحهم ، اقرأ وافهم واستوعب - ان اردت -عن محمد التابعي ، ورزاليوسف، واحسان عبد القدوس ، وكمال الملاخ ، ومحمود ابوالفتح ، ومحمد حسنين هيكل ، واحمد بهاء الدين ، ويوسف السباعي ، ومصطفي امين وعلي امين ، وموسي صبري ، وابراهيم سعدة .. والعشرات معهم من اعلام الصحافة المصرية التي كانت شعلة النور لصحافة كل البلاد التي تنطق باللغة العربية.. وراء ظهرك تاريخ لا تستهن به ، فلا تبدأ تاريخك بقذف الحجارة علي ذلك التاريخ لتهدم اهرامات الصحافة العربية من الصحف والصحفيين ، بين يديك ارث صحفي مصري اورثه القدر اليك ، إنه ارث كتابات الصحفي واوراق الصحيفة التي افني حياته بين جدران مكاتبها وماكينات مطابعها ، وعليك ان تثبت انك تستحق ذلك الميراث الذي لا يقيم بأوراق النقد البالية التي تقذف في محرقة النقد كل بضع سنوات .. كان درساً قاسياً تلقيته منذ اكثر من خمسة وعشرين عاماً ، عرفت فائدته في كل يوم من ايام كل تلك السنوات كلما هممت الامساك بالقلم لأكتب مقالاً او تعقيباً أو رأياً او حتي قصة قصيرة ، وما اعاد الي ذاكرتي تلك "الصفعة" التي كانت ولا زالت الدرس الابقي في حياتي ، الا ما اسمعه بين الحين والاخر عن ازاحة مواقع الانترنت الخبرية حديثة العهد بالصحافة للجرائد الورقية الشامخة العريقة الضاربة في عمق التاريخ الصحفي المصري، وذلك تحت دعوي التجديد والتحديث لملاءمة روح العصر. وان تلك الصحافة القائمة بصحفها وصحفييها اصبحت " صحافة قديمة ويجب ان تتغير.." وهي نفس المقولة الكارثة التي وقعت في خطيئتها قبل اكثر من ربع قرن مضي ، تلقيت ألم الصفعة النفسي وحاولت وما زلت احاول ان استفيد من درسها ، والي زميلي الصحفي في الصحيفة الورقية او الموقع الالكتروني انقل درسها المهني لعله يشاركني الفائدة .. الصحافة الجديدة لا تلغي الصحافة التي سبقتها ، ولا تلغي تاريخها أو نضالها أو كفاحها بفأرة جهاز الكمبيوتر ، شكل الصحافة الجديدة اليوم علي شاشة جهاز الكمبيوتر سيعتبر قديماً غداً أو بعد عدة ايام علي اقصي تقدير. لكن ذلك الشكل الجديد لن يدخل تاريخ الصحافة المصرية ، لأنه لم يكن امتداداً لها فقدر تاريخها ، ذلك التاريخ الذي مهد له ما هو فيه الآن ، لأنه لم يعطه حقه المستحق من التقدير ، بل اراد ذلك الشكل الجديد بصحفييه الجدد ان يبدأ تاريخاً جديداً بالقاء حجارة التكنولوجيا الحديثة علي اهرامات الصحافة المصرية الراسخة ، فلا توجد صحيفة ترث صحيفة او تلغيها ، لكنه من المفترض ، ان تكون امتداداً لها تسير علي نهجها وتحاول ان تقلدها وتطور اداءها ، ينبغي علي شكل الصحافة الابن ان يكون "ابن حلال" لشكل الصحافة الذي سبقه من قبل ، فلا يتبرأ من والده ويلغي دوره عقب ظهوره علي مسرح الحياة ، حتي تفخر الصحافة المصرية بكل ثمرة تظهر من الصحف ، والصحفيين ..