أيهما أكثر قدرة علي الإمساك بزمام أمورها.. المرأة في القمة.. أم في الوسط.. أم في القاع؟ وأي امرأة أسعد حظاً من غيرها؟ هل هي التي وضعت في أعلي مستوي من المكانة والثروة؟ أم التي سلبت حقوقاً كثيرة وحاولت استردادها بعد زمن طويل، ونجحت.. إلي حد ما؟ المقارنة بين عملين مختلفين في القالب مما يعرض علي شاشاتنا غير واردة، لكنها ممكنة في حالة ما يقدمه كل منهما من نموذج درامي لافت ومستحق للانتباه والجدل، فالإنسان هو الإنسان مهما تغير التاريخ والظروف والأوضاع. وفي «امرأة في المنفي» نموذج لا يمكن تجاهله لملكة مصر ذات يوم، الملكة نازلي والدة آخر الملوك في العهد الملكي فاروق وشقيقاته الثلاث، والمسلسل الذي انتهي عرضه أمس الاول علي شاشات عديدة يقدم صورة يغلب عليها الحزن والشفقة لهذه المرأة المهمة في تاريخنا الحديث، أعلم أن هناك من البشر من يسعده الشماتة في نكبات غيره، خاصة إذا كانت امرأة وملكة ولكن تأمل مسيرة «نازلي» من خلال السيناريو الذي كتبته راوية راشد عن كتابها الذي جمعت معلوماته من مصادر حياة الملكة نفسها في أمريكا، إضافة إلي حياتها في مصر، وأيضا تأمل تلك الصورة التي قدمها لنا مخرج المسلسل محمد زهير رجب والممثلة التي قامت بدور نازلي «نادية الجندي» يوصلنا في النهاية إلي نوع من الشفقة والحزن الحقيقي علي مصير المرأة، الملكة الضائعة بل والمنبوذة من الملك الذي نفض يده منها بل وحاول إحكام الحصار عليها في الغربة التي ذهبت إليها للعلاج فصارت منفي، وبدلاً من التعامل معها برفق وتذكر الجهد الكبير الذي قدمته والصراعات التي دخلت فيها ليصبح ملكا علي مصر، تركها في أمريكا بلا رعاية أو شعور بالأمان مما أتاح فرصاً عديدة للضباع والذئاب لكي تنقض عليها وتنهشها. أقول هذا بعد مشاهدة المسلسل الذي من الممكن تلخيصه في جمل قليلة تخص حياة هذه المرأة التي حظيت باللقب الملكي، ومجوهرات التاج، وأموال كثيرة ورثتها عن أبيها ولكنها خسرت قرارها وحقها الإنساني الطبيعي في الاختيار منذ بداية شبابها حين سلبها الملك فؤاد هذا الحق وصمم علي أن يتزوجها برغم علمه بحبها لسعيد بك ابن أخت سعد زغلول وخطبتها له، وبعد الزواج سلبها حريتها أيضا وتحولت إلي واحدة من جوقة الديكتاتور مقررا إنزالها إلي قفص الجواري إذا لم تنجب له ولي العهد ومع إنجابها ولي العهد لم يتحسن وضعها كثيرا وإنما دخلت في صراعات أروقة القصر التي سلبتها حقها في الإشراف علي رعاية ابنها، وبعد موت الزوج الملك دخلت في صراعات أخري أفرغت فيها طاقتها الكامنة ضد الكارهين لها من أهل الملك وعلي رأسهم زوجته السابقة شويكار، خاضتها حتي تولي الابن العرش وفي اللحظة التي اعتقدت فيها أن الحياة ابتسمت لها، خاصة بعدما شعرت بالحب لرجل آخر بعد سنوات عديدة من نسيان مشاعرها كامرأة، كشر لها الابن فاروق عن أنيابه فقد كان هذا الرجل علي حسنين زوجا لابنة شويكار وحتي بعد طلاقهما اعتبر الملك مشاعر أمه عيبا وعارا وكأنه من المفترض أن تعيش رهينة «الصورة» التي يراها الآخرون عليها، ولهذا تعذبت «المرأة» قبل الملكة، ولم تستطع الملكة أن تنقذ المرأة والإنسانة حين هربت إلي المنفي بعد أن صار الوطن غربة وسجناً وبعد أن أصبح الابن هو السجان ثم قفز إلي حياتها أفّاق أمسك بها وبابنتها الأميرة فتحية من باب الحب، هو «رياض غالي» الذي تزوج ابنتها رغما عنها بل وزوج صديقه «فؤاد» من ابنتها الأخري في المنفي «فايزة» رغما عنها وافقت مرغمة لأنها كانت وحيدة في بلد بعيد، رفع الابن يده عنها وفضل أن يحاربها بدلا من أن يحبها أو يتفهم ظروفها، رفض رعايتها ورفض مساعدتها ليلقي بها إلي المغامرات والخسائر المتتالية، ماليا وإنسانيا وكأنه يلفظها تحت مسميات عديدة، تركها تحت رحمة الأفاقين وصائدي الثروات والنساء في أمريكا، وكأنها شجرة بلا جذور أو نبت شيطاني حتي لقيت حتفها بعد أن رأت موت ابنتها فتحية بالرصاص علي يد رياض غالي. هل كانت «نازلي» ضحية نفسها.. أم طموحها.. أم نظام مريض كان يلفظ أنفاسه الأخيرة فكانت من أولي ضحاياه.. وهل كان عليها أن تسعد لأنها ستصبح زوجة لملك عجوز بدلا من شاب تحبه ويحبها استطاع أن ينسيها زواجها الاول الفاشل وهل كان من المفترض لها أن تصبح أقرب للوحة أو مخدة يضع عليها الزوج الملك رأسه قليلا قبل أن يواصل أعباءه الملكية؟ وهل كان عليها أن تسعد وتبتهج لمنعها من زيارة أبيها وأسرتها وقطع صلة رحمها بأقرب الناس إليها؟ ثم بعد موت الملك الزوج، هل كان عليها أن تفض يدها من كل هذا وتعود لبيت أسرتها أم تقاوم بشراسة مشروعاً جديداً لإجهاض أحلامها حلم انتقل لابنها هذه المرة وهو أن يكون ملكا وأن تصير هي أم الملك؟ وحين حدث هذا واستقرت الأمور هل كان عليها أن تقتل مشاعر الحب التي نبتت من جديد لإنسان آخر بعد سنوات طويلة من الحرمان العاطفي والإنساني؟ وهل كان عليها أخيرا أن توافق علي حرمانها من أحبته ومن التحقق كملكة أم، بل من إلقاء الابن الذي صار لصيقاً بضرتها السابقة يكاد يقيم عندها؟ وأي أمل لدي إنسانة في هذه الظروف التي تتساوي مع ظروف أي امرأة أخري.. بلا تاج أو قصر.. أو أبهة! قصة نازلي هي نموذج جديد يؤكد احتقار المرأة وأكلان حقوقها والعسف بإرادتها في كل الطبقات، ويعيد التأكيد علي تغلغل الثقافة الذكورية في مجتمعاتنا وشيوع النميمة، وقد استطاع المسلسل أن يقدم لنا الجانب الآخر من الحياة داخل قصر عابدين. وحيث كان فاروق بطلا في المسلسل الأول عن هذه الحياة منذ ثلاثة أعوام، واستطاع أغلب الممثلين والممثلات تأدية أدوارهم باقتدار لكن ملكة العمل نادية الجندي قصرت أحيانا في التعبير عن مواقف ومشاعر عديدة وكأنها اعتقدت أن الملكة لابد أن تكون قليلة المشاعر حتي لا تقترب من الشعب، كذلك فتحية الأميرة «قامت بدورها شيرين عادل» في المرحلة الأمريكية، هل كان من الضروري أن تطول هذه المرحلة علي الشاشة بلا تفاصيل مؤثرة سوي عمليات النصب علي الملكة؟ وهل كان «البرود» في الأداء و«السطوع» في استخدام الماكياج وارتداء المجوهرات منطقيا في تلك المرحلة السوداء من حياة الملكة في المنفي؟ وهل كانت ملابسها في هذه المرحلة ملائمة؟ وهل تغاضي المسلسل عن تفاصيل أكثر أهمية مما قدم لنا لأسباب لا نعلمها؟ برغم كل هذا.. فإننا رأينا فيما رأينا مأساة امرأة تعرضت لما تتعرض له الكثيرات من بنات جنسها بداية من الزواج بالإكراه إلي النهب بالإكراه.. لأن مصيرها لم يقلق أحدا في مصر وقتها لا ابنها الملك ولا الحكومة.. ولا الشعب.. ولكل منهم عذره.. أما العذر الأهم فهو أنها امرأة.. تستاهل ما جري لها لأنها لم تسكت.. ولم تتعلم أن تكون جارية بلا عقل أو صوت.. في الأسبوع القادم.. سيكون الحديث عن امرأة أخري.