وسط طوفان المسلسلات والبرامج جاء مسلسل الجماعة ليؤكد أننا أمام عمل مهم ومختلف ويفتح آفاقا واسعة أمام القراءة النقدية والتعليق السياسي، الأفكار كثيرة وتتناول الشكل والمضمون ولكنني اخترت مبدئيا أن أخصص هذا المقال لتحليل المصاعب التي واجهت وحيد حامد في كتابة الجماعة ومدي نجاحه أو فشله في التغلب عليها مع الإشارة إلي الطريقة المبدعة التي تم من خلالها تنفيذ المسلسل تحت القيادة الخلاقة لمخرج من الفئة الأولي اسمه محمد ياسين.. أظن الآن أنه أصبح في خانة الكبار. وحيد حامد هو أيضا أحد أسطوات الدراما التليفزيونية رغم أن أعماله فيها أقل كثيرا من رصيده السينمائي فمن أحلام الفتي الطائر إلي أوراق الورد إلي سفر الأحلام وأوان الورد والبشاير تنوعت أشكال وطرق المعالجة ورغم أن مسلسلاته عموماً شديدة الجرأة إلا أنه يكون بالتأكيد أقل حرية مقارنة بما يكتبه للسينما، ولكن مثل السينما يتألق وحيد حامد تليفزيونيا عندما يكون في ملعبه الأثير وهو الدراما الاجتماعية ذات الأبعاد السياسية هنا يصول ويجول ويبدع ويمتع باستثناءات قليلة كما حدث في مسلسل العائلة الجسور الذي عرض في عز موجات الإرهاب التي ضربت الوطن لكن العمل نفسه جاء متواضعا وأشبه بالتعليق عالي الصوت وأقرب إلي الهتاف والمباشرة منه إلي الدراما المتماسكة الناضجة. لكن الجماعة حكاية أخري ومعضلة شديدة الصعوبة وأظن أنها من ناحية حرفية الكتابة من أصعب الامتحانات التي واجهها وحيد حامد من حيث الموضوع ويقدم وحيد حامد عملاً سياسياً بامتياز وينقل من خلاله انحيازاته بدون مواربة، إنه من الآخر كما يقولون ضد تجربة الإخوان أمس واليوم وغدا ومشكلة الأعمال السياسية أنها تقيم عادة علي أساس سياسي لا فني بمعني أن الورطة هنا أن معظم أعداء الإخوان سيرحبون فورا بالمسلسل والعكس صحيح بالنسبة للإخوان وأنصارهم وليذهب الفن والصنعة والبناء والإخراج إلي الجحيم. المشكلة الثانية أكثر خطورة وهي أن الموضوع معاصر جدا، أنت هنا لا تتحدث مثلا عن ثورة 1919 ولكن تتحدث عن جماعة مازالت موجودة رغم أنها محظورة بحكم القانون كما أنها تحاول أن تمارس لعبة السياسة بشكل مباشر أو غير مباشر وبالتالي فإن تقديم مسلسل يكشف فساد تجربة مزج الدين بالسياسة يجعل المؤلف أي مؤلف في خانة مؤيدي وأنصار المعسكر السياسي المعادي للإخوان في الانتخابات مثلا مع أنه من الوارد جدا أن يكون المؤلف ضد الاثنين وأن يكون مؤمنا باختيار طريق ثالث، المهم أنها صعوبة كبيرة تحتاج إلي مجهود شاق عن حلها علي الورق. أما الصعوبة الثالثة فهي أنك ستصنع مسلسلا فكريا من الطراز الأول لأنك ستنتقد تجربة الإسلام السياسي أو التأسلم علي حد تعبير د.رفعت السعيد من خلال تجربة الإخوان وحسن البنا هذا أمر سهل للغاية إذا كنت ستكتب مقالا أو بحثًا أو رسالة دكتوراه ولكنها مصيبة لأي كاتب درامي محترف لأنه سيكون عرضة طوال الوقت للانزلاق إلي حوارات جافة بين الشخصيات بحيث يتحول العمل إلي ما يقترب من المناظرات السياسية، هنا يفقد العمل الفني متعته تمامًا، ويعلو صوت الفكرة، وتتصرف الشخوص كما يريد لها المؤلف ثم تتحدث بصوته، وفي المقابل، فإن انجراف المؤلف مع الشخصيات والأحداث بدون إمساك بالفكرة السياسية أو بالوعي بطبيعة الأفكار المطروحة، يمكن أن يسلب المسلسل مغزاه وأهميته، ويحوله إلي عمل اجتماعي من الدرجة الثالثة تحتشد فيه قصص الحب والكراهية ومكائد النساء! لذلك كله أقول إن الجماعة من أقوي التحديات التي واجهتها موهبة وحيد حامد كمؤلف واسجل هنا أنه اجتهد كثيرا في وضع حلول لهذه الصعوبات سالفة الذكر مع التسليم بأنه لا يستطيع أن يمنع مهاجمة عمله أو الانحياز له علي أساس سياسي بحت فالاستقطاب حاد جدا ولكني أظن أنه نجح في إجبار المؤيدين والمعارضين للإخوان علي متابعة المسلسل. علي مستوي الشكل أمسك وحيد حامد بفكرته جيدا و لم تفلت منه أبدا، قال لنفسه أنا ضد ظاهرة التأسلم السياسي وسأختار الإخوان نموذجا وسأبدأ من حسن البنا صاحب الفكرة والتجربة الأولي ولكن معالجة مبدئية بهذا الشكل ستجعل من الإخوان فعلا ماضيا وستجعل الحديث عن الإسلام السياسي صفحة من التاريخ مع أنه مازال يفرز تجلياته في كل مكان. هنا جاء التطور الأهم في بناء المعالجة بأكملها بحيث تسير الدراما في خطين متوازيين ومتقاطعين معا، حكاية حسن البنا في الماضي وحكايتنا اليوم مع اتباعه وهذا الشكل هو الأفضل والأكثر عمقا فمن ناحية اكتسب العمل ميزة المسلسل التاريخي وميزة المسلسل المعاصر معا ومن ناحية أصبح ما نراه في الحاضر يجد تفسيره في التجربة القديمة ومن ناحية ثالثة أصبح للشخصيات المعاصرة حرية التعليق والنقد من خارج التجربة القديمة فكأن العمل أصبح شاملاً نستخدم الكلوز أب عندما نعود إلي حكاية حسن البنا ونستخدم اللقطات المتوسطة والبعيدة الأكثر موضوعية عندما نعود إلي أحداث هذه الأيام وهناك جدل مستمر بين الأمس واليوم وأجيال الأمس وأجيال اليوم هذا الشكل المتوازي قد يكون أسهل بكثير في فيلم مدته ساعتين مثلا ولكنه شديد الصعوبة في مسلسل طويل ولكن موهبة وحيد حامد تكفلت بحل المشكلة. في الكتابة الفعلية كان لابد من بناء الأحداث والشخصيات بطريقة قوية وبكل الأبعاد الممكنة لا مفر من المناقشات والمناظرات لأن المسلسل يناقش أفكارا بالدرجة الأولي ولكن ليس مسموحا أن تبدو الشخوص باهتة أو أن يفقد العمل الحركة إلي الأمام حتي طلبة الإخوان الذين ظهروا في مشهد واحد وهم أمام النيابة تذكرهم المتفرج وكانت الجوانب الإنسانية أيضا تشكل غلافا يمنع الشخوص من أن تتحول إلي أفكار متحركة، كان وحيد حامد يكتب كما لو كان يسير علي حبل مشدود وكان واضحا جدا أنه يستنزف كل أساليب الخبث الدرامي لكي يقول ولا يقول في بعض الحلقات الأولي كان الحوار مباشراً وكان هناك نوع من التشوش تظهر شخصية تهاجم الإخوان فترد عليها شخصية تؤيد الحكومة ثم تظهر شخصية ثالثة تهاجم الاثنين معا كان هاجس المؤلف الأكبر فيما أظن يترجم موقفه من الإخوان علي أنه دعاية فجة وليس مجرد وجهة نظر يؤمن بها صاحبها. ولكن لحسن الحظ تم اسناد تنفيذ السيناريو إلي المخرج محمد ياسين الذي وفر كاستنج مدهشا لا أظن أنني رأيته بهذا الاتقان في مسلسل مصري خلال السنوات الأخيرة كل ممثل في دوره وبمجازفة محسوبة حسن الرداد الذي أصبح ممثلا راسخا، إعادة اكتشاف عزت العلايلي، إياد نصار الممثل الأردني بحضوره وبفهمه للشخصية التي تجمع بين البساطة والتركيب، الطيبة، الدهاء، الحماس والهدوء، كل انفعال في وقته ومكانه وبالميزان الحساس، ملاحظتي الأهم كانت علي ماهر عصام الذي بدأ أصغر من حسن البنا مع أنه أكبر منه سنا ولكن التعويض الأهم كان في اختيار الموهوب أحمد مالك في دور حسن البنا صبيا وفي اكتشاف سامي مغاوري في دور كبير الإخوان، المشخصاتية بثوا في أدوارهم الحياة والحيوية وكان الأداء منضبطا للغاية بعكس ما نشاهد في المسلسلات المصرية. بصمة محمد ياسين كنت واضحة في كل مكونات الصورة شديدة الثراء، اختيار أماكن التصوير لوحات وائل درويش الذي قام بترجمة معاني كثير من المشاهد بالضوء بل بمساحات الظلام داخل الصورة، النور الساقط من أعلي في اجتماعات البنا مع محب الخطيب أو اللقطات البعيدة المتلصصة لاجتماعات الإخوان أو انعكاس صورة البنا واتباعه علي الماء كلها صور تثير الريبة والهواجس وتوحي بالغموض المقبل ثم ديكورات أنس أبوسيف التي عبرت عن المكان والشخصيات هذه الجدران الصفراء المتقشقة التي تحاصر حسن البنا في القرية والمدينة، كان الإيقاع أيضا جيدا ومقبولاً حتي في المشاهد الخاصة بالمناظرات وأفضلها علي الإطلاق استجواب الطالب حسين القاطن في أسطبل عنتر بأداء الموهوب محمد فراج الذي يستحق جائزة خاصة عن هذا المشهد وتعلف موسيقي عمر خيرت كل هذا الإتقان الفني بجمل يأتلف فيها الحلم بالتمرد.