ما الذي تريده الإدارة الامريكية من إثارة قضية طائرة لوكربي مجددا مع تركيز خاص علي المواطن الليبي عبدالباسط المقرحي الذي دين في الجريمة ونفّذ قسما من العقوبة؟ فجأة، عادت كارثة لوكربي إلي الواجهة بعدما كان الاعتقاد السائد أن صفحتها طويت في انتظار اليوم الذي تكشف فيه حقائق القضية بالكامل ويتبين من الجهة، أو علي الأصح الجهات، التي تقف وراءها. فقد بدأ، قبل سنة، مع إطلاق المقرحي من سجنه الاسكتلندي، لأسباب صحية، وعودته إلي بلاده برفقة سيف الإسلام القذافي أن الجماهيرية استطاعت تجاوز تلك المأساة بفضل تسوية نهائية قضت بدفع تعويضات إلي أهالي ضحايا الطائرة والاكتفاء بسجن المقرحي بضع سنوات. هناك في واشنطن من يسعي إلي إعادة عقارب الساعة إلي الخلف، وحتي إعادة المقرحي إلي السجن، من منطلق أن الرجل، بعد اثني عشر شهرا علي استعادته حريته، لا يزال علي قيد الحياة. كان يفترض في المقرحي أن يكون حاليا في عالم آخر، علما بأنه لم يطلق بعد تأكيد الأطباء الاسكتلنديين أنه لن يعيش أكثر من ثلاثة أشهر فحسب، بل لأن صفقة ما تمت أيضا بين ليبيا وبريطانيا لم تكن شركة "بي. بي" النفطية بعيدة عنها. بالنسبة إلي بعض الأوساط الأمريكية، لا علاقة لإخراج المقرحي من السجن وإرساله إلي بلاده بأي دواع إنسانية من بينها ترك الرجل "المصاب بالسرطان" يموت بين أهله! من لديه بعض الاطلاع علي ما حصل في أواخر العام 2008 حتي منتصف العام 2009، يعرف أن إطلاق المقرحي، قبل سنة، لم يكن انتصارا لليبيا علي الرغم من الاحتفال الجماهيري ومظاهر الفرح والبهجة التي رافقت عودته الي ارض بلده. ما حصل كان نتيجة مفاوضات مضنية بين جهات عدة كانت ليبيا طرفا فيها من جهة وسعي جدي الي لفلفة قضية في غاية التعقيد من جهة اخري. فالكل يعلم في نهاية المطاف ان تفجير طائرة "بانام" فوق لوكربي في الشهر الاخير من العام 1988 لم يكن جريمة ارتكبتها ليبيا وحدها. ربما كان للجماهيرية ضلع بالجريمة او مساهمة ما في العملية الارهابية. لكن الثابت في تلك المرحلة انه كان مطلوبا توجيه اصابع الاتهام الي نظام العقيد معمر القذافي لأسباب أمريكية قبل اي شيء آخر... وهذا ما حصل بالفعل. من يريد التأكد من ذلك، يستطيع بكل بساطة طرح سؤال في غاية البساطة فحواه الآتي : ماذا حل بأفراد المجموعة الفلسطينية الذين اوقفتهم الاجهزة الالمانية المختصة في فرانكفورت قبل اسابيع قليلة من تفجير طائرة "بانام" في الجو؟ لماذا لم يعد هناك من يتحدث عن افراد تلك المجموعة علما بأن الطائرة الأمريكية توقفت في فرانكفورت قبل متابعة رحلتها الي مطار هيثرو في لندن واقلاعها منه الي نيويورك. اكثر من ذلك، وجد مع افراد المجموعة الفلسطينية جهازا ترانزيستور فيهما متفجرات فضلا عن جهازي توقيت يسمحان بتفجير الترانزيستور لدي بلوغه ارتفاعا معينا. كل هذه المعلومات ليست سرّا عسكريا، بل نشرت في وسائل الاعلام في حينه مع صورة لأحد جهازي الترانزيستور وقائمة بأسماء افراد المجموعة المعنية والجهة التي ينتمون اليها. بقدرة قادر، لم يعد هناك اثر لأفراد المجموعة التي كانت تعد لتفجير طائرة ركاب في الجو، تماما كما حصل فوق لوكربي. ربما كان افضل تفسير لما حصل قول مسئول أمريكي كبير في جلسة خاصة، لدي سؤاله، في العام 1995، عن سبب حصر التحقيق بليبيا ان الادارة الأمريكية كانت تريد دائما "وضع نظام القذافي في قفص" وكان ان سنحت لها الفرصة لتحقيق هذا الهدف بفضل قضية لوكربي. ما لم يقله المسئول الأمريكي ان الولاياتالمتحدة كانت في مرحلة ما، خصوصا بعد جريمة احتلال صدام حسين للكويت في الثاني من اغسطس 1990، مهتمة بتشكيل تحالف دولي واسع من اجل محاصرة العراق ومنعه من البقاء طويلا في الكويت. ولذلك، لم يكن في استطاعتها استفزاز اي دولة عربية او غير عربية من دول المنطقة باستثناء ليبيا التي لم يكن مطلوبا منها الانضمام الي التحالف الدولي الذي اخرج صدام من الكويت او حتي المساعدة في عزل العراق الذي صار محاصرا من كل الجهات. باختصار، كانت ليبيا هدفا سهلا، خصوصا انه لم يكن فيها، في تلك المرحلة، من يفكر في عواقب المغامرات التي كان مسموحا بها إبان الحرب الباردة والتي لم تعد مقبولة في اي شكل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. الآن، يطل السؤال المحير. لماذا عودة التركيز علي قضية لوكربي واطلاق المقرحي؟ هل المقصود الضغط علي ليبيا ام تصفية الحسابات مع شركة "بي.بي"، المسئولة عن تسرب النفط في خليج المكسيك وتلويث مساحات واسعة من الشاطئ الامريكي، ومن خلفها الحكومة البريطانية التي ترفض التخلي عن الشركة العملاقة؟ من الواضح ان بعض الاوساط الأمريكية، خصوصا الشركات النفطية، تريد اصابة اكثر من عصفور بحجر واحد. ولكن يبدو واضحا مرة اخري ان الزاوية التي تنظر من خلالها هذه الاوساط الي لوكربي ليست الزاوية الصالحة للوصول الي الحقيقة. الحقيقة في مكان آخر ولا علاقة لها بالمقرحي او بالمتهم الليبي الآخر الذي اطلق بعد محاكمته ويدعي الامين خليفة فحيمة. هذا ما يفترض ان يدركه اعضاء مجلس الشيوخ الاربعة الذين يسعون الي معرفة ملابسات اطلاق المقرحي ولماذا لا يزال علي قيد الحياة حتي يومنا هذا. في حال كان هناك من يريد معالجة الموضوع ببعض الجدية، لا بد من العودة الي البداية... أي إلي تحقيق يتناول دور ليبيا وغير ليبيا في موضوع لوكربي. سيتبين يوما انه لم يكن امام الجماهيرية من خيار غير تسليم المقرحي وفحيمة بعد ضمان محاكمتهما بموجب القانون الاسكتلندي. ولكن سيتبين ايضا ان الجريمة التي حصلت وذهب ضحيتها مئتان وسبعون شخصا كانت اكثر تعقيدا مما يعتقد، وان المجرمين الحقيقيين ما زالوا من دون عقاب... لأسباب سياسية أولا وأخيرا! كاتب لبناني