تبدو التحركات الإيرانية الأخيرة مثيرة للاهتمام إلي حد كبير، لم يسبق لإيران أن أوفدت مثل هذا العدد الكبير من المسئولين فيها إلي لبنان وسوريا خلال فترة قصيرة، ما كاد علي أكبر ولايتي كبير مستشاري مرشد «الجمهورية الإسلامية» آية الله علي خامنئي يغادر دمشق بعد زيارة طويلة لبيروت حتي وصل إلي العاصمة السورية وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي، ما الذي لدي متقي يزيده علي الرسالة التي حملها ولايتي؟ هل جاء متقي للتأكد من أن الرسالة التي حملها ولايتي إلي كبار المسئولن السوريين لقيت تجاوبا لدي هؤلاء؟ أم يحمل رسالة مختلفة؟ الأكيد أن ما تقوم به إيران حاليًا من نشاطات في غير مكان من المنطقة يعكس قلقًا متزايدًا لدي طهران من تطورات لا تصب في مصلحتها، يأتي هذا القلق وسط أنباء عن حوار أمريكي - إيراني تتولاه جهات معينة قد لا تكون بعيدة عن الرئيس محمود أحمدي نجاد الذي يهيئ نفسه لزيارة لبنان بعد انقضاء شهر رمضان المبارك، مثل هذا الحوار لا يعني أن هناك استعدادًا أمريكيا لتقاسم النفوذ مع إيران في المنطقة والاعتراف بدور مهيمن لها في الشرق الأوسط بمقدار ما يشير إلي أن طهران باتت مقتنعة بأنه ليس في استطاعتها الذهاب بعيدًا عن عدائها للولايات المتحدة من جهة والعمل في الوقت ذاته علي الاستفادة من تورطها في أفغانستان والعراق من جهة أخري. في كل الأحوال، هناك، في أقل تقدير، سببان للقلق الإيراني: يعود السبب الأول إلي أن العقوبات التي باشر المجتمع الدولي في فرضها علي «الجمهورية الإسلامية» أكثر من جدية وأن الكلام عن غياب أي تأثير للعقوبات علي المواطن العادي ليس في محله. أكثر من ذلك، يبدو أن الأوروبيين والأمريكيين علي استعداد للضغط علي كل المستويات من أجل توسيع نطاق العقوبات بعدما رفعوا شعار: لا تعايش مع إيران نووية. وهذا يعني في طبيعة الحال أن الخيار العسكري أكثر من وارد في حال إصرار النظام الإيراني علي متابعة برنامجه النووي الذي يخفي رغبة في إنتاج القنبلة الذرية. أما السبب الآخر للقلق الإيراني، وهو مرتبط إلي حد كبير بالسبب الأول، فهو عائد إلي الموقف الروسي الجديد من البرنامج النووي الإيراني، إلي ما قبل أشهر قليلة كانوا المسئولون الروس يكتفون بإبداء قلقهم من البرنامج النووي الإيراني. لكنهم كانوا في الوقت ذاته يمتنعون عن الذهاب بعيدًا في مسايرة الأمريكيين والأوروبيين. طرأ أخيرًا تطور علي الموقف الروسي جعل الرئيس الإيراني يوجه انتقادات شديدة اللهجة إلي كبار المسئولين الروس وإلي سياسة موسكو عمومًا. فجأة، لم يعد أحمدي نجاد يفرق بين الموقفين الروسي والأمريكي متجاهلاً أن التحول الذي طرأ علي موقف موسكو مرتبط إلي حد كبير بعدم قدرة طهران علي الإجابة عن سؤال في غاية البساطة في شأن إصرارها علي تخصيب اليورانيوم بنسبة عشرين في المائة. فمن يسأل أي خبير في الفيزياء النووية عن التخصيب يأتيه الجواب الآتي: من يمتلك التكنولوجيا التي تسمح له بتخصيب اليورانيوم بنسبة عشرين في المائة، يستطيع الوصول إلي نسبة 93 في المائة وهي النسبة التي يحتاج إليها إنتاج السلاح النووي. بالنسبة إلي الروس، يقول خبير كبير في الفيزياء النووية، لا يوجد للكمية التي تنتجها إيران من اليورانيوم المخصب ونوعيتها أي استخدام في المرحلة الراهنة، باستثناء الحصول علي القنبلة، نظرًا إلي أن إيران لا تمتلك مفاعلا لإنتاج الطاقة كما أن عقدها مع روسيا لتشييد مفاعل بوشهر وتشغيله يتضمن تزويد المفاعل بالوقود. ويضيف هذا الخبير في شرحه لأسباب التبدل في الموقف الروسي أن كل الحجج التي تسوقها طهران في شأن البحوث النووية التي تقوم بها لا تسنتد إلي منطق. فالنظائر المشعة الطبية والصناعية يمكن أن تنتج بكميات قليلة تكفي دولة مثل إيران يقل عدد سكانها عن مائة مليون نسمة... هذا في حال كان مطلوبا استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية! باختصار شديد، انكشفت اللعبة الإيرانية، إيران كانت تلعب علي جهل الناس بكل ما له علاقة ببرنامجها النووي إذ تربط بين تصنيع الوقود والقدرة علي تشييد المفاعلات، والقضيتان مختلفتان تمامًا، ذلك أن من ينتج البنزين عن طريق مصاف نفطية لا يمتلك بالضرورة مصانع تنتج سيارات. لا شك أن هناك محاولة إيرانية لتجاوز مأزق ناجم عن العقوبات الدولية من جهة وانكشاف طبيعة البرنامج النووي الذي استخدمته «الجمهورية الإسلامية» طويلاً لتغطية سياساتها علي الصعيد الإقليمي من جهة أخري. لم يكن من هدف لإيران سوي تكريس نفسها قوة إقليمية معترفآ بها من المجتمع الدولي علي حساب كل ما هو عربي في المنطقة.. إيران موجودة في الخليج وتهدد الملاحة فيه وقادرة علي إثارة كل أنواع الغرائز المذهبية داخل دول المنطقة.. وإيران هي المنتصر الوحيد في الحرب الأمريكية علي العراق.. وإيران موجودة بقوة في لبنان وقادرة علي احتلال بيروت في أي لحظة عبر الميليشيات التابعة لها فضلا عن أنها تعتبر عناصر القوة الدولية في جنوب لبنان رهائن لديها.. وإيران تحرك «حماس» مثلما تحرك الحوثيين في اليمن.. وهي موجودة أيضا في أفغانستان وباكستان ولديها علاقات خاصة بالتطرف السني، بما في ذلك «القاعدة». هذا غيض من فيض بالنسبة إلي قدرات إيران.. هل آن أوان البحث الجدي في مستقبل دورها في ضوء العقوبات الدولية والتحول الروسي، أم تتابع عملية الهروب إلي الأمام مع ما قد يعنيه ذلك من زيادة في احتمالات حصول مواجهة علي الصعيد الإقليمي.. المخيف في الأمر أن دولة عدوانية مثل إسرائيل ليست بعيدة عن أجواء المواجهة نظرا إلي أنها تعاني بدورها من مأزق داخلي يجعلها غير قادرة علي مواجهة تحديات السلام ومتطلباته.. إنها أيام عصيبة تمر فيها المنطقة والارتباك لا يقتصر علي إيران بل ينسحب علي أدواتها في المنطقة بشكل أكثر من ظاهر.