الرئيس بشار الأسد لا يريد التخلى عن علاقته المميزة وحلفه الاستراتيجى مع إيران، لكنه يريد العودة بها إلى زمن والده حافظ الأسد، حين كانت إيران تحتاج سوريا فى لبنان وفلسطين وباقى الدول العربية، لا إلى الوقت الذى باتت فيه سوريا بحاجة إلى إيران فى هذه البلدان مضافا إليها العراق.. خاصة بعد إعلان الأسد الابن إخراج القوات السورية من لبنان بمقتضيات القرار الدولى 1559. وإيران نفسها أنهت بإخراج سوريا من لبنان، زمن تلقى حزب الله وأمينه العام حسن نصر الله تعليماته من دمشق، كما كانت فى عهد حافظ الأسد، وعلى بشار الأسد أن يقتنع بأن إيران هى التى تعطى التعليمات لنصر الله وحزبه، وعلى سوريا أن تلتزم بها وأن تدافع عنها! كيف يمكن التوفيق بين طرفى هذه المعادلة؟ سوريا بحاجة إلى إيران، وحزب الله لم يعد يأخذ تعليماته من دمشق، طهران تحتاج إلى سوريا، وحزب الله يحصل على أسلحته الإيرانية عن طريق دمشق؟ عندما كانت سوريا مطلقة اليدين فى لبنان حتى عام ,2005 لم تكن هناك من مشكلة كبيرة بين النظامين فى دمشقوطهران، ولم يكن حزب الله يجد أى حرج لسنوات طويلة حتى فى أحرج الأوقات. عندما خطفت جماعات إيرانية عام 1984 رئيس الجامعة الأمريكية فى بيروت روبيرت دودج ونقلته إلى طهران، اخترق القائم بالأعمال السورى فى طهران إياد المحمود «وهذا ليس اسمه الحقيقى» مجموعة الحرس الثورى التى كانت تحتجز دودج ونجح فى إطلاق سراحه ونقله عبر شركة الطيران السورية إلى دمشق، ومنها إلى أمريكا التى سارعت فى عهد رئيسها رونالد ريجان للاتصال بسوريا لشكرها على هذه المساعدة. يومها تعرض إياد المحمود للاختطاف فى طهران، وكاد يقتل لولا أنه قاوم مختطفيه الذين أصابوه أثناء اختطافه، ووصل أمر الاختطاف إلى الرئيس حافظ الأسد الذى سارع للاتصال برئيس الجمهورية الإيرانية يومها على خامنئى الذى أمر بترك المحمود وإعادته إلى سوريا «عاد منها إلى لبنان ليتسلم فصيلة جهاز أمن الدولة السورى فى لبنان»، ويقال أنه كان وراء إرسال خبر بيع أمريكا الأسلحة لإيران وهو ما سمى ب «إيران جيت» عبر أصدقاء خليجيين إلى مجلة «الشراع» لنشرها فى العدد 242 بتاريخ 1986/11/3 وكان نشر هذه الفضيحة فى «الشراع» أحد أسباب خسارة إيران الحرب مع العراق على حد وصف باتريك سيل فى كتابه - الأسد - الصراع على الشرق الأوسط». ورغم خلاف إياد المحمود مع غازى كنعان الذى كان يتولى رسميا مسئولية رئاسة جهاز الأمن والاستطلاع للقوات العربية السورية العاملة فى لبنان، فى كثير من السياسات والسلوكيات الأمنية والاستخباراتية السورية واتباعها فى لبنان، إلا أن أمرا سياسيا ظل يجمع بين الأمنيين السوريين الكبيرين هو الحذر الشديد، بل التنبه إلى ثقافة وتبعية حزب الله إلى إيران.. ملتزمين إلى حد القداسة تعليمات حافظ الأسد بدعم الحزب فى مقاومته لإسرائيل.. فقط. تحذيرات واضحة وعندما اتهمت إيران ضمنيا الاستخبارات السورية بتسهيل اغتيال الموساد لرجلها فى المنطقة عماد مغنية فى مربع الاستخبارات السورية فى كفر سوسة يوم 2008/2/12 وردت عليها دمشق بأن السيارة التى قتل فيها مغنية فخخت فى لبنان، فى إشارة واضحة إلى اختراق الموساد لحزب الله فى الضاحية الجنوبية لبيروت، بلعت إيران هذا المسمار الصدئ لأنها - على حد وصف أحد المسئولين الإيرانيين - لا تريد التضحية بالعلاقة الاستراتيجية مع دمشق من أجل شخص واحد مهما كانت أهميته لها، ومهما قدم لها من خدمات! وعندما هدد حسن نصر الله بالانتقام من إسرائيل لقتلها مغنية، جاءته التحذيرات واضحة من دمشق بألا يجرب استدراج المنطقة «لبنان وسوريا» إلى حرب لن تسمح دمشق لأحد أن يحدد لها فيها المكان والزمان ومازال الموعد مفتوحا إلى أجل غير مسمى! فى إطار المحافظة على هذه المعادلة، ينظر الإيرانيون إلى المعلومات التى تحدثت عن أن دمشق أرسلت إلى مجلة «دير شبيجل» الألمانية بشكل مباشر، أو بطريقة غير مباشرة، بواسطة أحد عناصرها فى لبنان الوزير السابق ميشال سماحة معلومات عن تورط حزب الله بقتل الرئيس رفيق الحريرى فى 2005/2/14 فى بيروت، بأنها معلومات غير مفاجئة أو أنها من النوع الذى يمكن استيعابه مادامت دمشق لم تقطع بعد حبل السرة مع وليدها فى لبنان حزب الله ومادامت تفتح له مستودعاتها لتزويده بكل أنواع الأسلحة التى يحتاجها فى لبنان، وهى المرسلة كلها من إيران، كما تفتح دمشق أبواب معسكراتها فى كل أنحاء سوريا لتدريب عناصر هذا الحزب على الأسلحة الحديثة الواردة إليه من طهران، كما تستقبل دمشق كبار مدربى الحرس الثورى وكبار ضباطه الاستخباراتيين. ووفق هذه المعادلة أيضا تغلق دمشق أبواب الحوزات «الدينية» التى أنشأتها وتمولها إيران بواسطة أعداد كبيرة من رجال الدين الإيرانيين «والعراقيين» لنشر التشيع بين العلويين السوريين واستقطاب متحمسين سنة متأثرين بالمقاومة التى أبداها حزب الله سابقا تجاه إسرائيل «تراجع هذا الحماس بشكل كبير منذ اجتياح حزب الله لبيروت يوم 2008/5/7». وترى إيران هذا الإغلاق جزءا من رسالة سورية رسمية إلى العالم كله بأنها محكومة بنظام علمانى، أصدر فى الوقت نفسه قرارات حاسمة بمنع دخول المدرسات المنقبات إلى مدارسهن، وإحالتهن إلى وظائف إدارية، ويدرس النظام نفسه أيضا قرارا بمنع المنقبات من دخول الجامعات السورية سواء كمدرسات أو كطالبات وكلهن على المذهب السنى وهو دين الدولة الرسمى «70% من الشعب السورى على المذهب السنى». حوزات دينية طبعا ترى طهران فى قرار بشار الأسد بمنع المدارس الدينية الإيرانية فى كل سوريا، استعادة لسياسة والده تجاه هذه المسألة، وبشار يذكر كيف أن الرئيس حافظ أمر السلطات الإيرانية الرسمية فى عهد الرئيسى هاشمى رافسنجانى بسحب رجال الدين الإيرانيين الذين جاءوا ينشرون التشيع داخل سوريا ويقيمون المراكز الدينية، وإعادتهم إلى بلادهم فورا. وتسجل إيرانلبشار الأسد أنه مثلما فعل والده وأصر على سحب المشايخ فورا ودون ضجيج أو إعلان، فإن بشار نفسه أمر بإقفال هذه المدارس أيضا دون ضجيج وإعلان. وفى سوريا قرى عديدة على المذهب الشيعى منها 4 فى حلب و4 فى حمص وفى دمشق نفسها حى الأمين الذى يحمل اسم السيد محسن الأمين وهو مرجع شيعى لبنانى كبير كانت له مواقف مستنيرة من عدد من القضايا، وهذا الحى ظل حاضنا لمعظم الحركات الإسلامية الشيعية العراقية المعارضة للنظام السابق فى العراق، كحزب الدعوة، ومنظمة العمل الإسلامى.. وفى دمشق نفسها يحضن جبل قاسيون حيا شيعيا كاملا كما يحضن اللاجئين من الجولان وأغلبيتهم من الدروز. هذا عدا الحوزات العراقية فى سوريا، التى واجهت تحديات شديدة من جانب أعداد كبيرة من العراقيين الذين نزحوا من بلادهم بعد احتلال القوات الأمريكية للعراق بدءا من 2003/3/20 ودخول ميليشيات الموت التى أرسلتها إيران إلى العراق للانتقام من كل أثر عربى قاتل ضدها خلال الحرب بين البلدين «1980- 1988» وتشهد دمشق فى أحيان كثيرة مشاحنات ومشاجرات بين العراقيين المحسوبين على إيران الذين نجحوا فى إقامة حوزات دينية فى بعض المواقع التى يعتبرها الشيعة ذات أهمية دينية لهم، وبين العراقيين الذين هربوا من جرائم ميليشيات فرق الموت الإيرانية ولا يتسرب إلى الإعلام كثير من هذه المواجهات بسبب القبضة القوية لأجهزة الأمن السورية فى كل البلاد، خاصة حيث يمكن أن يتعرض الأمن لتحد شديد من مثل هذه الجماعات. وهنا فرق، بين أن يذهب الرئيس بشار الأسد إلى الرياض مشتكيا من إصرار إيران على نشر التشيع بين العلويين وحتى بين السنة، وشراء عشرات المواقع التى يعتقد الإيرانيون أنها لشخصيات لها قيمة عند الشيعة، لتحويلها إلى مزارات، ومراقد وحوزات دينية بدءا من سوق الحميدية فى دمشق على بعد أمتار من المسجد الأموى وصولا إلى حلب وحمص وبقية المدن السورية التى تقطن فيها قلة من الشيعة السوريين والجهر بلعن الصحابة فى كل مرة يتم فيها التمجيد بآل البيت بما يثير نقمة عند الأغلبية السنية، ويشكل إحراجا للنظام الذى يجهر بعلمانيته تجاه السنة، ويحضن التشيع مستفزا السنة مرة أخرى، وبين قرار بشار الأسد بإقفال هذه الحوزات الدينية، فى وقت يمنع فيه المنقبات المدرسات من دخول مدارسهن. ما الذى تغير؟ البعض يعتبر أن بشار الأسد ومنذ فترة ليست طويلة استعاد السلطة كاملة بين يديه فأبعد من أبعد وقرب من قرب، وبات الآن يكمل دور والده أو يشبهه فى الإمساك بالسلطة، وتوزيع المهمات والمسئوليات على من يثق بهم، يسانده شقيقه الضابط المحترف ماهر، الذى لن يؤدى دور عمه رفعت الأسد حين كان شقيقه حافظ ممسكا بالسلطة منذ عام 1970 «على الأقل هذا ما يبدو الآن حيث ينام ماهر حين يكون بشار صاحيا.. والعكس صحيح». والبعض الآخر يرى أن المتغيرات السياسية حول سوريا لم تعد تسمح للنظام فيها أن يظل معتمدا إلى هذا الحد على إيران وهو يغامر بمعاداة العالم كله.. فيعود إلى مغازلة هذا العالم من جديد، استعادة لدوره فى عهد حافظ الأسد، الذى ظل يقدم نفسه قادرا على تأدية أصعب الأدوار فى المنطقة دون أن يغضب الغرب أو إسرائيل، وفى الوقت نفسه يظل رافعا شعار الممانعة والصمود.. بما يرضى إيران وأتباعها والمقهورين من القوميين! وهناك من يعتقد أن إسرائيل فى عهد بنيامين نتانياهو مجرم الحرب الأشرس، أوصلت إلى النظام فى دمشق رسائل حاسمة بأن أى التزام سورى مع إيران فى مسألة الحرب فى لبنان أو خارجه يعنى أن دمشق نفسها وقصر الشعب أو قصر تشرين نفسه سيصبح عرضة للاستهداف الصهيونى المباشر.. ألم يقصف الصهاينة مفاعل الكبر النووى السورى قيد الإنشاء «بمساعدة إيرانية مالية وكورية شمالية فنية» عندما كانت أوساط إيرانية تتهم دمشق بأنها سهلت لإسرائيل اغتيال رجلها فى المنطقة عماد مغنية؟ ألم تقتل إسرائيل مسئول الملف النووى السورى محمد سليمان عندما كانت سيغولين روايال «مرشحة الحزب الاشتراكى الفرنسى الرئاسية ضد المرشح اليمينى نيكولا ساركوزى» تقول لوليد جنبلاط ورهط من رفاقه فى قوى 14 آذار/ مارس لا تعتمدوا علينا أو على أمريكا لإسقاط نظام بشار الأسد، لأن إسرائيل أبلغتنا وأبلغت واشنطن أن هذا النظام هو حاجة أمنية استراتيجية لها فى المنطقة؟! الموقف الإيرانى لن تتخلى إيران عن حلفها الاستراتيجى مع دمشق، تحت أى ضغط أو دفع أو إغراء أو تخل، لاعتبارات معروفة وبالغة الأهمية، أهمها على الإطلاق أن دمشق تمسك بعنق أهم أذرع إيران العربية على الإطلاق وهو حزب الله فى لبنان، مثلما يشكل هذا الحزب لسوريا أهم أدواتها الفاعلة فى القضايا التى تهم دمشق فى لبنان وفى الصراع مع العدو الصهيونى. وبالمقابل لن تتخلى دمشق أيضا عن حلفها الاستراتيجى مع طهران، تحت أى ضغط أو دفع أو إغراء أو تخل لاعتبارات معروفة وبالغة الأهمية وأهمها، أن دمشق لم تحصل حتى الآن من الغرب أو من العرب على ما يدفعها لأن تستبدلهم بالعلاقة مع الإيرانيين. النظام السورى اخترع التجريبية «البراغماتية إن لم يكن الميكيافيلية العربية»، وهو ليس مستعدا لأى خطأ فى هذه المسألة الاستراتيجية لأنها باتت تمس أمنه ووجوده، والخطأ الأول فيها كخطأ التدريب على المتفجرات هو الخطأ الأخير! سيتعايش النظامان السورى والإيرانى تحت كل الظروف لاعتبارات مصلحية حاسمة، ومثلما يتعايش النظام السورى مع الاحتلال الصهيونى للجولان، ويتعايش النظام الإيرانى مع مشيخة قطر التى تضم أهم قواعد عسكرية أمريكية فى الخارج مهددة للنظام الإيرانى نفسه، فإن ما يجمع بين دمشقوطهران كثير كثير يستحق أن يحافظ عليه النظامان. وأكثر من هذا.. إن دمشق تحاول أن تروج لمصالحة مع طهران تكون هى فيها الوسيط بينها وبين العرب، وبينها وبين الغرب، وقد ردت على كل الذين طالبوها بأن توقف علاقاتها مع إيران، بأن العالم كله أصبح قرية كونية وأن إيران أصبحت أقرب إلى أى بلد عربى من أى عاصمة عربية أخرى، كما أن «دفاع» إيران عن القضايا العربية يكبر كلما تخلى الغرب وبعض العرب عن القضايا العربية. صحيح أن دمشق تراقب عن كثب تداعيات الحصار الاقتصادى على إيران، ومفاعيل الثورة الخضراء الداخلية، التى تقض مضاجع النظام، لكن دمشق تراقب أيضا إصرار الإدارة الأمريكية على الحوار والمفاوضات مع إيران حول أمور عديدة، وما يتردد عن منع واشنطن إسرائيل من أى حرب مباشرة ضد إيران لتدمير منشآتها النووية وطاقاتها الأخرى العديدة. إنها التجريبية أو البراغماتية والبعض يعتبرها الميكيافيلية العربية، تتساوى فعلا وقولا مع مثيلاتها سواء كانت فى الغرب أو فى الشرق وتحديدا فى إيران. كيف تنعكس هذه السياسة فى لبنان؟ كثيرون رأوا أن الاشتباك الذى وقع فى برج أبى حيدر بين حزب الله وجماعة «الأحباش» «إحدى الأدوات المخلصة للنظام السورى» أحد مظاهر المسعى السورى لاستعادة وضع سابق لدمشق فى لبنان قبل اغتيال رفيق الحريرى فى 2005/2/14 الذى أدت تداعياته إلى إخراجها من لبنان يوم .2005/4/26 ذلك أنه ومثلما كان الخروج السورى من لبنان فرصة لإيران للإمساك بلبنان عبر حزب الله فإن إضعاف حزب الله يصبح أمرا حتميا لكى تضعف إيران فيمكن لسوريا أن تعود للبنان من الباب العريض، ودون خلاف مع إيران.. هكذا أمسكت إيران بلبنان دون خلاف مع سوريا.. وهكذا يمكن أن تستعيده دمشق دون خلاف مع طهران! حتى الآن سوريا قوية فى الشارع الشيعى لاعتبارات يعرفها الجميع، لكنها تعرف أنه لم يكن ممكنا لها أن تخرج من لبنان لو ظل الشارع السنى معها، لكنه حين انقلب هذا الشارع عليها أصبح خروجها من لبنان حتميا خاصة بعد أن تحالف مع الشارعين المسيحى الذى قاد حملة الاستقلال الثانى والشارع الدرزى الذى أيده تحت قيادة وليد جنبلاط «وكان الدعم العربى والدولى عبر القرار 1559 ضروريا ليحقق هذا الاستقلال»، سوريا تصحح علاقاتها شيئا فشيئا مع الشارع السنى، خاصة تيار المستقبل تحت راية المصالحة العربية التى قادها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وكان اللقاء الحميم بين الرئيس بشار الأسد والرئيس سعد الحريرى فى قصر تشرين الذى شهد حضورا مميزا لمستشار الملك عبدالله نجله الأمير عبدالعزيز بن عبدالله رسم معالم مرحلة جديدة بين الرئيسين وبين دمشق وتيار المستقبل الذى يعيش وجمهوره منذ فترة تداعيات القرار الظنى المنتظر، وإمكانية توجيه التهمة بقتل زعيمه رفيق الحريرى لحزب الله دون أن يعنى هذا تبرئة ضباط سوريين من ارتكاب هذه الجريمة. لكن هناك فارقًا بين أن يقول السيد حسن نصر الله للرئيس سعد الحريرى أن حزبه لا يمكن أن يخترق وأن أى اتهام لأى عنصر فيه بقتل والده رفيق الحريرى، يعنى توجيه التهمة مباشرة إلى نصر الله نفسه، وبين أن يقول الرئيس بشار الأسد لسعد الحريرى، أن المرحلة التى قتل فيها رفيق الحريرى لم تكن كلها صافية بيد الأسد داخل سوريا، وأنه لو ثبت له أن هناك سوريًا واحدًا ضالعًا فى هذه الجريمة فإنه لن يتردد فى تسليمه إلى القضاء السورى لمحاكمته بتهمة الخيانة العظمى. وهناك فرق بين أن يعلن السيد حسن نصر الله السعى لإسقاط القرار الظنى والمحكمة الدولية الخاصة لبنان، وبين أن يعلن الرئيس نبيه برى أنه يجب التمييز بين القرار الظنى والمحكمة الدولية. وهناك فرق بين أن يقفل عناصر حزب الله الذين استباحوا جزءًا كبيرًا من بيروت أثر مصرع أحد مسئوليهم فى اشتباك برج أبى حيدر هواتفهم النقالة حتى لا يتلقوا أى تعليمات من قياداتهم بضرورة الانضباط والانسحاب من الشوارع تحت ضغط اتصالات الرؤساء بقيادات هذا الحزب؟ وبين إصرار الرئيس نبيه برى على أن أحدًا من حركة أمل لم يشارك فى هذه الاشتباكات، خاصة أن حلف أمل مع الأحباش قديم وراسخ. وهناك فرق بين أن تعلن حركة أمل أنها لم تكن طرفًا فى اشتباكات مساء يوم الثلاثاء الدامى، وأن عناصرها كانوا ضيوفًا عند الأحباش فى إفطار رمضانى كريم، وبين نزول مسلحين إلى الشارع فى بعض أطراف منطقة الطريق الجديدة التى تدين بالولاء ل«تيار المستقبل» ولا تكن أى ود فى معظم زواريبها وسكانها للأحباش بسبب حلفهم مع حزب الله.. لدعم الأحباش فى هذه المواجهة مع حزب الله. يتندر بعض أبناء بيروت بأن حزب الله شطب تيار المستقبل فى ساعات فى بيروت يوم 7/5/2008 دون أن يخدش أى عنصر منه، بينما استطاع الأحباش قتل ثلاثة عناصر من حزب الله «البعض يقول اثنين» قبل إفطار الثلاثاء الرمضانى. وهذا التندر يهدف للوصول إلى واقع أن جماعة سوريا وحدهم قادرون على تخليص البيارتة من هيمنة حزب الله، وفى مجالس بيروت وأمسياتها الرمضانية همس تتصاعد عبراته بأن أحدًا لن يخلصنا من حزب الله إلا سوريا!! لكن هناك فرقًا بين أن يشتبك الحزب التقدمى الاشتراكى مع حركة أمل فى شوارع بيروت طيلة أعوام 1985- 1986- 1987 وأن يذهب المفتى الراحل الشيخ حسن خالد والرئيس الراحل تقى الدين الصلح إلى دمشق لرجاء حافظ الأسد بإرسال قواته إلى بيروت لوقف ممارسات الحلف المعمد بالدم بين الحليفين السوريين، وبين أن يشتبك حليفا دمشق حزب الله والأحباش فى شوارع بيروت إحياء لذكرى هذه الأيام السوداء فى تلك السنوات العجاف.. كمقدمة يخشاها كثيرون من عودة القوات السورية إلى لبنان. فروق بالجملة هناك فرق بين منظمة التحرير الفلسطينية المتحالفة مع اليسار اللبنانى التى كانت تسيطر على جزء كبير من لبنان طيلة عامى 1975- 1976 (وما قبلهما فى الجنوب) والتى دخلت القوات السورية للجمها ومحاصرتها كما طلب هنرى كيسنجر عام 1974 من حافظ الأسد وكما التزمت الدول العربية فى قمتى الرياض والقاهرة عام ,1976 وبين حزب الله الذى يكاد يسيطر على كل لبنان ومؤسساته الأمنية وغير الأمنية، منذ العام 2006 وبدءًا من العام 2005 أى بعد اغتيال رفيق الحريرى وإخراج سوريا من لبنان، هناك فرق بين أن تقبل دمشق أسلحة متقدمة من طهران، وأن ترسل ضباطًا منها إلى إيران للتدريب عليها، وأن ترفض البرامج الدينية التى تفرضها الاستخبارات الإيرانية على الضباط السوريين، وبين أن تقبل إرسال ضباط لبنانيين إلى إيران للتدريب على أسلحة عرضت إيران بيعها أو تقديمها هدية للبنان.. هذا إذا وافقت دمشق على تسلم لبنان أسلحة من إيران. وهناك فرق بين أن يأتى محمود إحمدى نجاد إلى لبنان ضيفًا رسميًا، وبين أن يكون تحت رعاية حسن نصرالله، وبين أن يكون نجاد ونصرالله ضيفين فى دمشق تحت رعاية بشار الأسد. وهناك فرق بين أن يجمع نجاد جماعاته فى لبنان ليتباهى بهم أمام العالم ودمشق.. وبين أن يأتى الأسد مع الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى بيروت بطائرة واحدة بعد قمة ثنائية فى دمشق هى الأنجح لهما والأكثر تحديدًا لمعالم التحرك المشترك فى لبنان تحديدًا. هناك فرق بين حزب الله الساطع نجمه عربيًا بعد حرب 2006 ضد إسرائيل وبين الحزب الذى يفزع لصدور قرار ظنى يتهمه بقتل الحريرى ولا يجد وسيلة للهروب إلى الأمام إلا اتهام إسرائيل بأنها قتلت رفيق الحريرى. حزب الله أداة إيرانية صافية، ودمشق لن تضحى تحت أى ثمن بعلاقتها مع إيران. دمشق تريد تصحيح علاقتها بطهران لاستعادة الريادة السورية لها كما كانت فى عهد حافظ الأسد. ودمشق تريد تصحيح علاقتها بحزب الله ليعود نصر الله إلى استلهام وتطبيق تعليمات بشار الأسد. دمشق تريد استعادة وجودها بلبنان بطرق ربما تكون مختلفة عن السابق. فليس من الضرورى مثلاً أن تدخل دمشق بجيوشها إلى لبنان كما دخلت سابقاً لمقاتلة منظمة التحرير الفلسطينية والإمساك بها، إذ يكفى دمشق أن تقوم بهذه الخطوات كى تمسك بحزب الله. كان أول مسمار فى نعش السيطرة الكاملة لحزب الله على كل لبنان هو مسمار معلومات مجلة «دير شبيغل» عن مشاركة عناصر من حزب الله بقتل الحريرى، والبعض يقول لا بل كان المسمار الأول هو فى قتل الموساد لعماد مغنية فى قلب دمشق، بعد أن تجاوز مغنية حدوده وبدأ استمالة ضباط علويين فى أجهزة الأمن السورية لمصلحة إيران!! المسمار الثانى الأكبر سيكون صدور قرار ظنى يحمل عناصر من الحزب مسئولية قتل الحريرى، (ألم يسأل أحد نفسه عن كيفية معرفة حزب الله بوجود العقيد غسان الجد فى مكان جريمة قتل الحريرى قبل 24 ساعة من وقوع الجريمة، وماذا كان يفعل عناصر الحزب يومها، ولماذا لم يقدموا هذه المعلومات لسوريا حينها التى وجهت لها الاتهامات بقتل الرئيس المظلوم، وكيف ولماذا وصلت عناصر الحزب إلى مكان وقوع العمل الإرهابى بعد ثوان من التفجير المروع؟). المسمار الثالث سيكون ببساطة بإعادة الاعتبار مثلاً لأول أمين عام لحزب الله الشيخ صبحى الطفيلى فى البقاع على الأقل لاستمالة خارجين ناقمين على الحزب فى هذه المنطقة التى شكلت خزانًا بشرياً حقيقًا لردف الحزب فى مقاومته لإسرائيل حيث سقط حتى سنة التحرير عام 2000 نحو 45% من كل قتلى الحزب من البقاع نفسه. أمر كهذا يعنى ببساطة شق الحزب بين بقاعيين وجنوبيين، خاصة أن الشيخ الطفيلى يأخذ على الحزب التمديد 9 مرات للسيد نصر الله فى الأمانة العامة للحزب، بينما نص النظام الداخلى على البقاء فى هذا الموقع لمرة واحدة فقط.. هكذا كان عهد الشيخ صبحى، وهكذا كان عهد خليفته الأمين العام الثانى السيد عباس الموسوى، أما السيد حسن فيبدو أن الثالثة جاءت ثابتة على عهده ولأجله. لاحظوا كيف أعلن طلب الشيخ صبحى من السيد نصر الله أن يسلم العناصر المتواطئة فى قتل الحريرى، إذا كانت فعلاً كذلك وكيف طلب من الرئيس سعد الحريرى الصفح عن الذين ارتكبوا هذه الجريمة؟ وهل يمكن استبعاد دور الجماعات المحسوبة على دمشق فى لبنان فى تحجيم حزب الله تمهيدًا لدور سورى أكبر فى هذا البلد.. الأحباش مقدمة.. أول الغيث والمطر بعدها ينهمر. حزب الله يعرف ذلك تمامًا- وإيران تعرف أكثر- لذا لن يندفع أى منهما لمناطحة سوريا فى لبنان، ولابد من تسوية لذا يخشى كثيرون أن تكون التسوية حائرة بين نارين: نار رفض الاستسلام ونار تحسين الشروط كلتاهما حاضرتان فى أذهان الذين يريدون بيروت مدينة خالية من السلاح تمهيدًا لتوسيع خارطة الإخلاء ليشمل كل لبنان!!