يقول نجيب الريحاني الذي لو تمسكنا بما تركه لنا من أسلوب وأداء وتقاليد عمل لما ضللنا الطريق ولا أفلتت من بين أصابعنا الفكاهة الرفيعة لتستقر في وحل الطرقات، يقول: (وحين رأيت من الجمهور المثقف ومن عامة الشعب هذا الإقبال منقطع النظير، رأيت أن أستغله استغلالا صالحا، وأن أوجهه التوجيه النافع، فرحت أنقب عن العيوب الشعبية، وأبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد، ثم أُضمن ألحان الروايات ما يجب من علاج ناجع لمثل هذه الأدواء. كذلك راعيت في كثير من الألحان أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور، وتعويده حب الوطن وإعلاء شأنه والمحافظة علي كرامته، والتغني بمجده الخالد، وعزه الطريف التالد. وكان من آثار هذا الإقبال وذلك النجاح أن تضاعف الخصوم والحساد، واختلفت أسلحة كل منهم في حربي، فمنهم من كان يطعن من الخلف بخسة ودناءة، ومنهم من كان ينازلني جهارا علي صفحات الجرائد اليومية، ولم يكن القارئ يفرد بين يديه إحدي الصحف إلا وجد فيها نهرا أو نهرين يتغني كاتبها بلعنة خاش كشكش وروايات كشكش واللي خلفوا كشكش كمان. ومع كل ذلك لم أكن أعير هذه الحملات أي التفات، ولم أكن أحدث نفسي بالرد علي أي كاتب. علي أن ذلك كله لم يؤثر من ناحية الإقبال أي تأثير، ولئن كان هناك شيء من ذلك فقد كان تأثيرا عكسيا، لأن الجمهور كان يتهافت علي حضور حفلاتنا تهافتا لا مثيل له. وفي ذلك الحين ظهرت طوائف" البلطجية" الذين كانوا يحومون حول أولاد الذوات من رواد مسرحنا، وقد شاءت دناءة بعض حسادي أن يتخذوا من أولئك البلطجية أداة لحربي، وقد كانوا يثيرون القلاقل، ويقومون بمشاجرات عنيفة داخل التياترو، ولست أنسي أن رصاصة أُطلقت علي شخصيا أثناء التمثيل، ولكن الله سلم وفي ليلة أخري أطلق مأفون علي حصا من نبلة كادت تصيب عيني إلا قليلا. فكرت كثيرا في هذه الحوادث فرأيت أن لا سبيل إلا محاربة الداء بالداء، فبحثت عن رئيس تلك العصابات، وجئت به وعرضت عليه العمل بماهية يتقاضاها وأفهمته أن وظيفته هي حفظ النظام في الصالة، ولقد أفلحت خطتي هذه، فتوقفت المشاغبات نهائيا وسارت الحال من تلك اللحظة علي ما يرام.) أنا أريد فقط أن ألفت نظرك إلي الجزء الأول من كلامه، بعد مشوار طويل من الفشل والعذاب والضياع استطاع أن يحقق قدرا هائلا من النجاح بعد تقديمه لشخصية كشكش بك، ذلك العمدة السفيه الذي يأتي إلي القاهرة ليصرف أمواله في محلات القاهرة الليلية، نجحت الشخصية التي أمده اللاوعي بملامحها عند الفجر وأمسك بها وقرر أن يكونها ، فكان نجاحه ساحقا، نجح في الفكاهة.. في الصنعة.. وهنا يكتشف الفنان دوره الحقيقي وهو الاهتمام بالبشر الذين يحيطون به، والعمل علي الارتقاء بهم، إنه دوره الإنساني الحقيقي بشرط أن يكون قد اجتاز كل امتحانات الصنعة المسرحية، لا أريد استخدام كلمات مثل الرسالة، والدور الوطني أو المحتوي الاجتماعي للفن، أو المسرح الهادف إلي آخر تلك التسميات التي نداري بها ضعفنا الفني، لقد تأكد بعد طول إنكار أنه ممتع وعليه الآن أن يكون نافعا أيضا، علي الناس أن تستمتع وعليها بعد ذلك أن تتعلم، وهو مؤهل لذلك، نعم هو مؤهل لذلك، ليس لعلمه الغزير، ولكن لصلابته الروحية واعتزازه بفنه، لا تنسي أنه قضي فترة من حياته يقدم عروضا باللغة الفرنسية، كان مصريا حتي النخاع غير أن أوروبا كانت تسكن قلبه وروحه.