كتب فيلسوف ألمانيا الأشهر " إيمانويل كانط "، في نهاية كتابه "نقد العقل المحض" : "وحده طريق النقد مازال مفتوحا". والنقد بالمعني الفلسفي لا يعني فضح العيوب ولا إبراز التهافت وإنما إثبات ( حدود الصلاحية ). والعقل الناقد (الناضج) هو عقل مستقل بالضرورة، يمارس النقد علي ذاته أولا، قبل أن يمارسه علي الآخرين، أو بالأحري، يمارس عملية مزدوجة ومتوازنة، فيما أسماه عبدالكبير الخطيبي ب ?النقد المزدوج?. هنا تكمن شجاعة كانط ومن سار علي هديه ، فالعقل المستقل المسؤول، يراجع نفسه بنفسه ويقيم أخطاءه بإستمرار، هذا المعني يغيب، أو يغيب عادة، عند معظم المثقفين العرب في تناولهم لفكرة التنوير، باستثناء القليلين منهم أمثال الفيلسوف والمفكر محمد عابد الجابري ( 1936 - 2010) الذي رحل عن عالمنا قبل شهرين تقريبا ، عن عمر يناهز 75 عاما ، بعد أن أوسع الثقافة العربية نقدا وتفكيكا علي مدي أكثر من أربعين عاما . انخرط الجابري في النضال السياسي المغربي في بداية الخمسينيات من القرن الماضي ، وكان قياديا بارزا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، قبل ان يعتزل العمل السياسي ليتفرغ إلي مشاغله الاكاديمة وهمومه الفكرية . يقول الجابري : " يشعر الواحد منا نحن المثقفين العرب أن التراث العربي بمضامينه ومشاكله الفكرية في واد ، والعصر الحاضر وحاجياته في واد آخر " . هذه المقولة ربما تلخص المتاهة التي يتخبط فيها الفكر العربي الممزق بين الحنين إلي الماضي وضغوط الحاضر واستشراف المستقبل . سعي الجابري إلي الجمع بين التراث والحداثة . فلم يتهافت علي ثمرات الحداثة ولم ينغلق في قلاع التراث ، وإنما انفتح عليهما معا من أجل تجاوزهما معا نحو الحاضر العربي الذي يعيش محنة فكرية محكمة . ربما كسرت أفكار الجابري حاجز الصمت بين الفكر العربي في المغرب والمشرق علي السواء ، وتجاوزت الحصار المضروب علي المغرب العربي ، عن طريق دمج المغرب في المشرق ، وأيضا المشرق في المغرب ، لتشكيل وحدة جديدة هي الوحدة العربية الاسلامية .. فقد كان من أبرز المثقفين القوميين ... لكن كيف كانت البداية ، وإلي أي حد نجح في ذلك ؟ مشروع الجابري الأساس هو " نقد العقل العربي " ، عبر دراسة المكونات والبني الثقافية واللغوية التي بدأت من عصر التدوين ثم انتقل إلي دراسة العقل السياسي ثم الأخلاقي ، وهو الذي صك مصطلح "العقل المستقيل"، أو ذلك العقل الذي لا يشتبك مع القضايا الحضارية الكبري، ويفتقر إلي الإبداع الحر . هذا من ناحية ، من ناحية أحري طرح من خلال ثلاثيته الشهيرة : تكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي، والعقل السياسي العربي ، امكانية الانتقال بالعقل العربي من " القبيلة " إلي " المجتمع " ومن " الغنائم " إلي " الضرائب " ومن " الاقتصاد الاستهلاكي " إلي " الاقتصاد المنتج " ، دون قطيعة بين الماضي والحاضر . يقول : " لا اعتقد انه من الممكن ان نقيم هذا الفصل التعسفي ما بين العقل العربي في الماضي والعقل العربي في الحاضر ، أو الممارسة السياسية الديمقراطية اليوم . نحن دائما نتحدث عن " طي الصفحة " ، بينما هذه الهوة لا يمكن أبدا ان تردم إلا بجسور نبنيها من داخلنا (ذواتنا) ، ودور الفكر في هذه المرحلة هو التخلص من منطق (إما ... وإما) ".