كل منا له رأي، في كل شيء وفي أي شيء، مع أو ضد أي شيء. بعضنا يحتفظ برأيه لنفسه وأغلبنا يدلي بهذا الرأي أو ذاك دون معرفة، دون برهان ودون تفكير، بمجرد الحدس أو التخمين أو لمجرد إزجاء الوقت وإثبات الوجود. يتصور هؤلاء أن أهم شيء أن يقول الإنسان رأيه وإلا لا يصبح إنسانا ولا تصبح له حيثية في المجتمع. قلة قليلة فقط تعرف وتؤمن بأن الرأي إذا لم تدعمه الحجة يظل خاويا، مفرغا من معناه، يظل مجرد ثرثرة قهاوٍ، أو بعبعة، أو هوهوة، سمِّها كما تشاء، مجرد دليل علي تخلف قائله أو رجعيته أو عنجهيته أو ادعائه. الرأي الذي لا تدعمه حجة قوية ولا ينبني علي رؤية ثاقبة أو دراسة وبرهان مجرد «كلام» بعضه خال من المعني وبعضه غامض ملتو، بعضه قائم علي طنطنة اللغة وبعضه استدرار عطف أو استنفار مشاعر. «الرأي العام» فكرة حديثة نسبيا رسخت برسوخ الديمقراطية التي تروج للتعبير باعتباره هدفا في ذاته، ترتبط به قيمة الحرية التي زرعتها الديمقراطية الغربية في أذهان البشرية، ديمقراطية الفضفضة التي تنبني علي منطق البوح ولكن أحيانا بلا سند ولا رابط. ما حدث نتيجة لتلك الممارسة الرجعية لمبدأ حرية الرأي والتعبير أن البشر كلهم يسعون للتعبير عن أنفسهم باستخدام سلاح الرأي، كل الناس بلا استثناء لديهم آراء يريدون فرضها علي غيرهم، حتي أصبحت الغالبية العظمي تفضل «التعبير» علي «التفكير»، والأقلية فقط هي من تفكر وتبحث وتتساءل وعندما تعبر عن رأي تفعل ذلك بحيطة وتأن. أصبح الرأي الجاهز مثل الطعام الجاهز، مخصصا للاستهلاك السريع وبلا فائدة حقيقية تعود علي مستهلكه. اليوم أصبح استهلاك الرأي العام رخيصا إلي حد العبث، وآخر أشكاله التي أشرت إليها في مقال الثلاثاء الماضي هي حملات اتهام المثقفين بالتطبيع أو اتهامهم بالإساءة إلي سمعة مصر، وكأن سمعة مصر ناصعة البياض والفنان هو الذي يسيء إليها لا السياسي المرتشي ولا رجل الدين الدجال ولا الشعب الخانع. لو نظرنا عن قرب سنجد أن التهمتين جاهزتان بسخف علي قارعة الطريق لأنهما لا تخاطبان عقل أي مفكر أو باحث عن الحقيقة، وإنما تخاطبان أحاسيس الشك التي تساور الناس عند قراءة هذا الافتراء أو ذاك، تخاطب قيم الوطنية السطحية من نوعية «مصر هي أمي». ولا أحد يعرف، لو كانت مصر فعلا «أم الثمانين مليوناً» سكانها فمن المسئول عن ترديها وانحطاطها وتخلفها. أصابع العقارب تشير إلي الفنانين والمثقفين باعتبارهم الشريحة المستضعفة وتنسي أنهم أول من يقيم لهذا البلد وزنا ويجعل له بريقا وينظف ما علق بوجهه من أوساخ سببها الكثيرون ممن لا تقوي إصبع واحدة علي الارتفاع لمهاجمتهم. عيب هذا النوع من «الرأي العام» أنه يتغاضي ويرتعب من كل سلطة حقيقية، أيديولوجية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية، فضلا عن أنه رأي يتبع ويدافع عن سلطة القطيع. عيبه أنه يتخيل نفسه سلطة وهو في الحقيقة مجرد جراب خاوٍ تتلاعب به السلطات جميعا، وليس في يده قرار واحد يستطيع فرضه بالكلام والنقاش والحجة. أتذكر دائما خروجنا عربا وغير عرب في مظاهرات شعبية هائلة في كندا للتعبير عن استيائنا كشعوب "متحضرة" من تهديد أمريكا باحتلال العراق. ملايين الناس خرجت للشوارع في شمال أمريكا وأوروبا وآسيا وإفريقيا، لا الحكومة الأمريكية ارتدعت ولا أي من دول التحالف التي قامت شعوبها تندد بالحرب تراجعت عن التحالف. تجربة قاضية لفكرة حرية التعبير في العالم المتحضر تؤكدها كل يوم تجارب أخري مماثلة علي الصعيدين المحلي والدولي. مبادئ الديمقراطية في العالم المتقدم وفي العالم المتأخر واحدة. مبادئ مبنية علي الرأي، والكل يعرف بما لا يقبل الشك أن الرأي وحده لا يؤثر في الحكومات. في العالمين المتقدم والمتأخر الأمر سواء بسواء: هناك من يتخذون القرار ويقومون علي تنفيذه، وهناك من يدلون برأيهم ولا أحد ينصت إليهم، ولو أنصت إليهم القائمون علي اتخاذ وتنفيذ القرارات فإنهم يفعلون ذلك من باب التحضر، من باب ممارسة الديمقراطية والتأكيد علي مبدأ أحقية الجميع في التعبير عن الرأي. الرأي رغم مميزاته هو العدو الأول والألد للفكر. يصلح أن يكون بذرة، أو يظهر في شكل تساؤل، لكنه نادرا ما يتمتع بوجاهة وجدة في التعامل مع معطيات الواقع. الرأي ممارسة سقفها محدود، لا يرقي لدرجة وجهة النظر إلا إذا جاءت دعائم البحث والتفكير والتأمل والمقارنة لتدعمه وتقويه. عندئذ يصبح رأيا يستحق النقاش، مفتوحا علي الآراء المعارضة له. ما قرأته من آراء تبنتها «جبهة تحرير الوسط الثقافي المصري من المطبِّعين» التي احتضنتها نفس الجريدة المصرية في الآونة الأخيرة ضد خالد حافظ وإيمان مرسال أمر يثير غثيان أي مثقف واع ومتأن ودارس، لا لأني أتفق مع فكرة تطبيع العلاقات الثقافية، ولكن لأني أختلف مع اعتبارها «تهمة» ومع كيفية التعامل مع «المتهمين بها» لتشويه إنجازهم الفني ومع ألقائها مثل قنبلة موقوتة في وجه مثقفين وفنانين يتصف إنتاجهم بالجدية والأصالة. مثل هذا الرأي لا يستحق إلا التعامل معه بعنف وحزم عن طريق القضاء أو باستخفاف واستنكار عن طريق التجاهل التام. لو أن أصحاب هذا الرأي كانوا يستندون إلي حجة لكان من السهل التعامل معهم بالحجة، لكنهم للأسف يزايدون ويتآمرون ويتاجرون بالرأي علي حساب الرؤية. رأيهم يصدق فيه ما قاله عمر ابن الخطاب: «أخوف ما أخاف علي هذه الأمة من عالم باللسان، جاهل بالقلب» وكما نعرف القلب عند العرب هو العقل، ويبدو أن التخلف الذي وصلنا إليه في بلادنا قد أصاب القلب والعقل وأطال اللسان حتي نفد صبر العقلاء وسيطرت الغوغاء علي ساحة الرأي.