في كتابها عن الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز تشير كلير كولبروك إلي الفصل الذي اهتم دولوز بتأكيده بين الأدب والفن والفلسفة من ناحية والحياة اليومية والثقافات الشعبية من ناحية أخري. لقد اعتبر دولوز أن النموذج الذي يتفق عموم الناس علي اتباعه في الحياة اليومية والثقافات الشعبية هو نموذج التمثيل والرأي، فالناس يتصورون أن العالم الخارجي يمكن فهمه وتمثيله والإحالة إليه باستخدام مفاهيم جاهزة وثابتة ومتفق عليها الهدف منها الوصول لحالة من الإجماع وشكل من أشكال التواصل وتبادل المعلومات. والثقافات الشعبية أيضا رسخت لأهمية التعبير عن الرأي بأشكال تصل أحيانا لحدود العبث والهستيريا لتأكيد حضور الذات في العالم بأقل مجهود ممكن وبممارسة ضغوط جماعية مكشوفة سلفا لفرض الرأي وتقوية شوكة صاحبه. الأمر مختلف عندما نتحدث عن الأدب والفن والفلسفة، لأن أنساق الأدب والفن والفلسفة تهتم ب"خلق" المفاهيم وليس بتأكيد ودعم الآراء العامة. تلك الأنساق لا تخضع بحال للرأي حتي لو كان رأي الأغلبية، ولا يمكن تداولها باعتبارها وسائل حياة تصلح للاستخدام اليومي. المفاهيم الفلسفية هي شكل من أشكال الإبداع، لا تخضع للتمثيل والمحاكاة، وتأثيرها يعود مباشرة علي الفن والأدب. لو تعلم الإنسان طرق التفكير ومسالكه وصولا لإنتاج فن أو فلسفة، لاستطاع خلق وإبداع مفاهيم جديدة من شأنها بمرور الوقت التأثير علي الرأي وتوجيهه. لكن قضية الدور والتأثير الاجتماعي قضية أخري، لا يجب أن تشغل الفنان والفيلسوف عن مهمة "التفكير والخلق" وصولا لمتلق تشغله نفس الأمور ويشترك مع الفنان والفيلسوف في نفس الهموم. الرأي بمفهوم دولوز الفلسفي هو دليل علي تعطل وكسل الفكر يتعارض تماما مع كل نشاط إبداعي أو فكري. يذكر دولوز وجتاري في كتابهما "ما الفلسفة" مثالا لرجل يمر من حالة كره تام لنوع معين من الجبن لتعميم رأيه الشخصي بهدف إثبات أضرار الجبن وأثره علي الصحة. إن رأي هذا الرجل نموذج لميل معظم الناس ممن لديهم "آراء" لتجاهل الفوارق بين معطيات الوجود، حيث يصبح مقياس الكون كله هو "أنا" الأمر الذي يؤدي حتميا لإضعاف الحيوية والنشاط اللازمين لروح وصفة الفكر. ويضيف دولوز وجتاري قراءة سياسية لهذا النوع من استشراء وشراسة الرأي، حيث يعتبرانه نتاج الفكرة العقيمة التي نشرتها الرأسمالية الحديثة التي تعتبر أن الناس جميعا واحد ويستطيعون جميعا التعامل مع السوق العالمية بنفس الطريقة وبنفس الطاقة طالما أتيحت لهم فرصة وحرية التعبير عن رأيهم. ثقافة الاستهلاك التي رسخت لها الرأسمالية انسحبت أيضا علي ثقافة استهلاك الرأي والرأي الآخر، بضاعة تحل محل أخري، ودعاية تحل محل أخري في عجلة رأس المال الدوارة، والمستهلك الحديث سعيد لأنه يستطيع الادلاء برأيه في كل البضائع المتاحة في السوق، عينية أو فكرية، بوهم الحرية والديمقراطية. الرأي هو إذن وسيلة الإنسان لتعميم التجربة الخاصة واعتبارها تجربة إنسانية عامة، هو طريق الإنسان الكسول محدود التفكير لتجاهل الفروق بين البشر بل والتغاضي عن فهم وتحليل كل ما يمثله العالم من تعقيد. الرأي ينتقل من الرغبات والمفاهيم الخاصة لرغبات ومفاهيم معممة لخلق نوع من التجانس بين الناس جميعا بغض النظر عن حقيقة وطبيعة هذا التجانس. الأغلبية علي سبيل المثال تتصور أن بإمكانها فرض رأيها علي الأقلية، والإنسان العادي يتصور أحيانا أن رأيه أهم من رأي المتخصص والمؤمن يؤمن بأنه علي حق والآخرون علي ضلال. أما الفكر فوسائله وطموحاته عكس ذلك علي طول الخط. ولكن لنتفق مبدئيا علي أن قراءة وفهم الفلسفة لا تعط إنسانا مهما علت قيمته وزاد قدره الحق في تسفيه رأي الآخر، فالقضية هنا لا تخص "إثبات الذات" ولا التباهي بالمعرفة ولا الاستمرار في مواجهة أثبتت فشلها علي مر العصور بين المفكر والمجتمع. القضية تخص محاولة تجنب الصراع والمواجهة التي لا طائل منها، وطرح الأسئلة بشكل مغاير ليس علي طريقة السياسيين والأيديولوجيين ورجال الدين الذين يتصورون أن المعرفة وسيلة للسيطرة علي عقول الناس وتوجيههم، ولكن علي طريقة الفلاسفة في دعوة الناس للتفكير والمقارنة والتأني. تضرب كلير كولبروك مثالا بمفهوم الحب للتدليل علي أهمية الفصل بين الرأي والفكر. تقول نقلا عن دولوز إننا لو أخضعنا الحب لمقياس الرأي فسنجد أن إنسان الطبقة المتوسطة يحدد الحب في نوع واحد دون عداه، الزواج. وكل ما هو خارج الزواج يعتبره صاحب هذا الرأي "قلة أدب" وخروجًا عن التقاليد! لكن لو أخضعنا الحب لمقياس التفكير والفلسفة، فإننا نجد أنفسنا خارج كل النماذج سابقة التجهيز والمعدة سلفا لتفسيره وممارسته. لو فكرنا في الحب لوجدنا أن قوته وطاقته وعنفوانه والامكانيات والاحتمالات التي يعد بها أوسع وأعمق بكثير من رأي أبناء الطبقة المتوسطة عن الصح والعيب. هل يعني ذلك أن الفيلسوف يريد فرض تفسيره ورؤيته للحب علي صاحب الرأي القائل بأنه لا وجود للحب خارج الزواج؟ هل يريد الفيلسوف القضاء علي النموذج السائد (الحب هو الزواج) لكي يحل محله نموذج آخر هو صانعه (الحب طاقة حرية لا حدود لها)؟ لا أعتقد أن هذا هدف ودور الفيلسوف أو الكاتب أو الفنان. الأمر وما فيه أن التفكير في الحب كمفهوم فلسفي يختلف كليا ونوعيا عن رأي الأفراد وممارساتهم اليومية. وهاجس الفيلسوف الأول هو خلق المفاهيم وفتحها علي الاحتمالات، فتح مفهوم الحب علي سبيل المثال لكي يضم العالم الأوسع والأرحب، عالم الممكن وليس عالم الجائز والمسموح به والمتفق عليه والمقبول والمرفوض. الفلسفة لا تأخذ نموذج العلاقة الزوجية الثنائية لتقول هذا هو النموذج الأمثل للحب. إن مفهموم الحب باعتباره "لقاءً محتملا بالآخر باعتبار هذا الآخر عالما كلياً جديداً" يتيح لنا التفكير في أشكال أخري من الحب لم تتحقق بعد، لم تتشكل بعد، تنتظر في عالم الاحتمال. المفهوم الفلسفي النشط علي عكس الرأي الكسول التابع - هو تلك القوة اللازمة للنزوع خارج المعروف والمألوف والتفكير في إمكانية توسيع التجربة وفتحها علي شساعة العالم. يتفق في ذلك مفهوم الحب... ومفهوم الوطن، موضوع الثلاثاء القادم.