في ديسمبر 1934 نشر جوديث راند شو نصاً مهما عن كافكا، كتبه والتر بنيامين، ولنا أن نقرأ منه هذه الكلمات الكاشفة: هناك طريقتان مغلوطتان لفهم أعمال كافكا، الأولي أن نفسرها علي أنها أعمال عادية وطبيعية، والثانية أن نفسرها علي أنها خارقة للعادة. في 1974 عندما خصص جيل دولوز وفليكس غاتاري كتاباً عن أعمال كافكا، أخذا في اعتبارهما الابتعاد بقدر الإمكان عن الطريقتين المغلوطتين، وأيضاً عدم التعامل مع أدب كافكا علي أنه علامة في التحليل النفسي، عقدة أوديب لديه، أو حكاية مدي اتصاله بأبيه وأمه، أو محاولة تقييده بالنظريات اللاهوتية والتفكير الغيبي. وتحت عنوان المحتوي والتفسير يقول دولوز وغاتاري: كيف يمكننا الدخول إلي أعمال كافكا؟ هذ العمل بمقام حفر جذع في الأرض. القلعة متعددة المداخل، وهناك أماكن غير معروفة جيدا في الفندق الغربي في رواية أمريكا. عدد لا يحصي من الأبواب الرئيسية، والأبواب الجانبية، عدد لا يحصي من حُرَّاس المراقبة، حتي أن هناك مداخل ومخارج بلا أبواب. من المحتمل أن قصة الجحر بمدخل واحد، وأقصي ما يستطيع أن يحلم به حيوان هو مدخل ثانٍ، يستخدَم في المراقبة فقط، إلا أن هذا الفخ صنعه الحيوان وكافكا نفسه خداعاً للعدو. إذن نستطيع مع كافكا الدخول من أي نقطة نريدها، فلا أهمية ولا أفضلية لنقطةٍ عن أخري، حتي لو كانت تبدو أنها تؤدي إلي طريق مسدود، أو ممر ضيق، أو أنبوبة شبيهة بأنابيب الصرف الصحي، لكن سيشغلنا دائماً الربط بين المدخل الذي دخلنا منه، والنقطة التي انتهينا إليها، مفترق الطرق والمعارض التي سنمر عليها، جذور الساق علي الخريطة، وكيف ستتغير الخريطة اذا دخلنا من نقطة أخري. إن المبدأ الوحيد لتعدد المداخل هو إعاقة العدو من الدخول. سنبدأ بشكل مبسط من الحانة في قاعة الاستقبال الموجودة في القلعة، عندما اكتشف ك بورتريه مدير القلعة رأسه المنخفض، وذقنه الغارق في صدره، هذان العنصران الصورة البورتريه، والرأس المنخفض، موجودان بشكل مستمر عند كافكا، رغم تفاوت منزلة كل منهما في أحكامه الذاتية عليهما. مثل الصورة الفوتوغرافية في أمريكا، الأم ذات رأس منخفض، والأب يرتدي زي العتَّال، بورتريه السيدة المرتدية الفراء في المسخ، وفي المحاكمة تنتشر الصور والبورتريهات في بيت المحامي واستديو الفنان تيتورلي. عنصر الرأس المنحني قل ظهوره في الرسائل واليوميات والقصص. المقدمة التي اخترناها ليست مجرد وعود بالتواصل مع أشياء نأمل أن نظهرها في هذا العمل، بل هي في حد ذاتها صيغة ربط بين شكلين مستقلين نسبياً، شكل المحتوي، الرأس المنحني، وشكل التعبير، البورتريه الصورة، اللذان يتوحدان معاً في مقدمة القلعة. نحن لا نفسرهما، ولكن علينا أن نقول ببساطة: إن اتحادهما يسبب عائقاً وظيفياً مُحافِظاً، الاتحاد غير القابل للمس، المحظور، الاستمتاع بالصورة غير المؤطرة يأتي من مشاهدتها فقط، وتبقي الثغرة في تفسير دولوز وغاتاري، هي حالة سامسا في المسخ عندما صعد علي صورة السيدة المرتدية الفراء مُحطماً تابوهات اللمس، إلا إذا مُنِحَ دولوز وغاتاري الحياة مرة ثانية، واعترضا بكون سامسا لم يحطم تابوه اللمس المحظور إلا وهو فقط في حالة مسخه، مع أننا لا نعرفه في قصة كافكا إلا ممسوخاً، لكن من الصعب تخيل سامسا فيما وراء النص، أي قبل مسخه، وهو يفضِّل النظر إلي صورة السيدة المرتدية الفراء علي الحائط، علي الاقتراب منها ولمسها. يكمل دولوز وغاتاري قولهما: الرغبة في سد السقف أو السطح، الرغبة في الخضوع، اللذة الوحيدة من ورائها هي الخضوع ذاته، وأيضاً الرغبة في فرض الخضوع، الإذعان، الرغبة في الحكم والإدانة كما في قصة الحكم، مشهد الأب الذي يجبر ابنه علي الركوع قبل أن يحني هو رأسه. عند هذا الحد يبدو تفسير دولوز وغاتاري لأعمال كافكا معقولاً، وإن كانت وضعية الصورة البورتريه عندما تأخذها شخصيات في مسار العمل، كما يذكران في قصة الحكم، أو كما ينظر «ك» من ثقب الباب في القلعة علي واحد من أهم شخصيات القلعة، وهو كلم، فيجده أمام منضدة في وضعية الصورة البورتريه، تضعف قليلاً من التفسير، ويزداد الضعف كلما توغلنا مع دولوز وغاتاري، لا سيما عندما تصبح مقولة الرأس المنحني والبورتريه مفتاحاً أساسياً لفهم كافكا، وعندما تصبح أيضاً مفتاحاً أساسياً لبوابة علم نفس أدبي. وبالطبع هذا تأثير مرحلة السبعينيات من القرن الماضي، عندما كان أنف التحليل النفسي يشمشم بحساسية في ثياب الأدب، وبالطبع أيضاً تأثير غاتاري المحلل النفسي علي صديقه دولوز، أي لنا أن ننسب آلياً كل ما هو ضعيف في قراءة كافكا إلي غاتاري، وكل ما هو قوي في قراء كافكا إلي دولوز. من ذاكرة الطفولة الأوديبية، الذاكرة هي بورتريه عائلي أو صورة نزهة لرجال برءوس منحنية ونساء يرتدين عقودا دائرية حول أعناقهن. الذاكرة تعوق الرغبة، تجعلها مجرد نسخة كربونية منها، تقسمها ضمن طبقات، تقطعها من كل ارتباط، ولكن ماذا يمكننا أن نأمل فيه بعد ذلك؟ إنه طريق مسدود، ومع ذلك ندرك أنه جيد، ورغم كونه طريقا مسدودا إلا أنه يشكل جزءاً من الساق الجذرية. الرأس المستقيم والرأس المصطدمة بالسقف أو السطح، تبدو إجابة عن فكرة الرأس المنحني. نجدها في كل مكان في القلعة. بورتريه العتَّال يماثل استعادة ذكريات برج الكنيسة في مسقط رأسه، برج الكنيسة يتجه إلي أعلي بشكل مستقيم، حتي برج القلعة مثل آلة الرغبة، كلاهما يثير الكآبة. الرجل المختل الذي تخيله «ك» معتزلاً داخل البرج، وهو يخرم السقف ليظهر فجأة أمام العالم، حتي الآن أليست صورة برج كنيسة البلدة الصغيرة لا تزال في الذاكرة؟ في الحقيقة إنه ليس فعل الذاكرة، ولكنه إحباطات أثناء مرحلة الطفولة، وليستْ ذاكرة الطفولة، وهي تثير الغرائز بدلاً من كبحها، تحل محلها بمرور الوقت، تنشر صلاتها وتربطها بانفعالات أخري، مثل عقبة برج الكنيسة الذي يرتبط بمشهدين آخرين، مشهد المعلم والأطفال يتكلمون كلاماً مبهماً، ومشهد العائلة الذي فيه اثنان من البالغين يلعبان في حوض الاستحمام، ويرشَّان «ك» علي وجهه برذاذ الماء. ولكن ليس هذا مهماً بينما المهم هو الموسيقي الخفيفة أو بمعني أدق الصوت النقي الانفعالي المنبعث من برج الكنيسة "هناك رنين ناقوس يهتز بهجةً، ناقوس جعل القلب علي الأقل للحظة ينتفض، وكأنما انتفض القلب لأنه يهدده، ذلك أن هذا الرنين البهيج كان في الوقت نفسه رنيناً مؤلماً، يهدده بتحقيق ما كان يتوق إليه في غير اطمئنان، ثم سكت هذا الناقوس الكبير بعد قليل، وحل محله ناقوس صغير ضعيف رتيب". إنه لمن الجدير بالملاحظة تسرب الصوت في أعمال كافكا وربطه بالميزانسين لرفع أو استقامة الرأس، جوزفين تصوب رأسها نحو الفأرة، الكلاب الصغيرة الموسيقية، كل شيء أشبه بحركات الموسيقي، مثل حركة الكلاب لأعلي وجلوسها فوق بعضها البعض، نموذج السيميترية الذي حدث من خلال كلب واحد يجلس، ويضع قدميه الأماميتين فوق ظهر الآخر، والبقية تحذو حذوه، كانت تسيرعلي الأرجل الخلفية.