بينما كانت قناة "الجزيرة" مشغولة باستضافة معلقين عرب للإشادة بكلمة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في برلمان بلاده في اليوم التالي للعدوان الإسرائيلي علي "قافلة الحرية" كان الرأي العام التركي يشعر بالإحباط مما جاء في الخطاب، والذي بدا أمام الشارع فيه الكثير من الكلام الحماسي، لكنه لم يرتق لمستوي الفعل، أي الهجوم العسكري علي سفن تركية أدي إلي إزهاق أرواح مدنيين أتراك. يتعامل البعض في العالم العربي مع حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا باعتباره حزبا إسلاميا، لذلك توفر جميع الحركات والأحزاب الإسلامية في العالم العربي تغطية رومانسية للحزب، تظهره بمظهر المدافع عن الإسلام والعرب وقضاياهم المشروعة، وهو أمر بعيد كل البعد عن الحقيقة. ووفقا للدستور التركي يؤمن العدالة والتنمية كغيره من الأحزاب السياسية بالعلمانية كأساس للحكم، ويؤمن الأتراك كافة، إسلاميون وعلمانيون، بالقومية التركية قبل أي شيء آخر، ومن هنا فإن المصالح العليا للدولة التركية هي ما يحرك صناع القرار في هذا البلد، بعيدا عن أية عقائد أو انتماءات دينية. وتعتمد السياسة الخارجية التركية علي رؤية صاغها أحمد داود أوغلو قبل أن يصبح وزيراً للخارجية، تضع علي رأس جدول أعمالها الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي كهدف أساسي، لأن تحقيق هذا الهدف، يفتح الأسواق الأوروبية أمام المنتجات التركية، ويتيح حرية الحركة والتنقل والإقامة للأتراك في أوروبا، وهي أمور من شأنها زيادة النمو الاقتصادي التركي، والتقليل من حدة البطالة التي تعتبر أهم مشكلة تواجه أي حكومة في العالم. إقليميا تريد تركيا الوصول إلي درجة الصفر في مشاكلها القديمة مع جيرانها، خاصة سوريا والعراق وإيران، لأن نجاحها في احتواء الخلافات، والوصول إلي علاقات طبيعية مع تلك الدول يمكنها من لعب دور مهم في المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، وفي إعادة ترتيب الأوراق داخل العراق بما لا يسمح بالتواصل بين اكراد العراق وتركيا، ونفس الأمر مع سوريا التي تتماس مع المناطق الكردية في جنوب تركيا، إضافة إلي إمكانية لعب دور الوسيط بين سوريا وإسرائيل.. والدخول إلي الملف الفلسطينية. استمرار نجاح سياسة أوغلو الخارجية التي تسير عليها تركيا يستدعي بالضرورة، استمرار العلاقات المميزة مع إسرائيل، لذلك لم تأخذ تركيا منحا تصاعديا تجاه إسرائيل، واكتفت بإجراءات لحظية، يمكن التراجع عنها، ولا تسمح في المستقبل بالتأثير علي العلاقات المميزة بين تل أبيب وانقرة، وهو ما فهمه الأتراك جيدا، لكن غضب الشارع التركي تجاوز الإجراءات الدبلوماسية محدودة التأثير. لكن السؤال الذي يحتاج إلي بحث كبير هو هل ضاقت إسرائيل ذرعا بهذا الدور التركي، الذي يبدو في تناميه وكأنه يأكل من الدور التقليدي الذي كانت إسرائيل تلعبه نيابة عن أمريكا وأوروبا في المنطقة؟ إذا صحت هذه الفرضية فهذا يعني أن الهجوم الإسرائيلي علي قافلة الحرية كان مقصودا ومحسوبا ويستهدف تركيا.. وربما لهذا السبب لاحظنا غضبا كبيرا لدي الساسة الأتراك، لكنهم تحكموا في غضبهم إلي حد كبير حفاظا علي مصالح عليا لن تتنازل عنها تركيا بسهولة.