الذكري تنفع المؤمنين إذا فهموا واستوعبوا معني الذكري. أما إذا فهموها علي نحو مغاير للحقيقة فلن تنفعهم بل تضرهم في بناء حاضرهم. والمؤكد أنها عندئذ تنفع الأعداء غير المؤمنين ودون أن يبذلوا أي جهد من جانبهم! وغدًا تحل ذكري الخامس من يونيه 1967 . الناصريون يكرهون تلك الذكري، تصيبهم ارتكاريا تجعلهم يهرشون في كل أنحاء أجسامهم إلا رءوسهم. يعتبرون الحديث عنها نوعًا من الندب ولطم الخدود وجلد الذات. يتغافلون عن أننا حررنا الأرض ولم نتحرر بعد من فكرهم الذي كان سبب الهزيمة، وأن هم من ينظر للخلف باعتباره أزهي عصورنا وهم من يمارسون الندب واللطم وجلد الذات علي أيامنا هذه قياسا بماضيهم. الحاجة لتكرار الحديث عن هذه الذكري ولعدد قادم من السنوات أننا نجد اسمها مرة (النكسة) ومرة (الهزيمة)، وهو ما يعني (الحول) الفكري. من يسمونها بالنكسة كما أسماها عبدالناصر أو ربما محمد حسنين هيكل هم الذين يشكلون أغلبية الساخطين اليوم باعتبار أننا نعيش الهزيمة! النكسة تحدث للمريض الذي شفي من مرضه ولكن بعد فترة تعود له بعض مظاهر المرض، أما الهزيمة فهي أن يصاب بالمرض لأول مرة. وأراد الطبيب بإطلاق اسم النكسة علي الهزيمة الإيحاء بأنه بوثوبه إلي السلطة عالجنا من مرض (العهد البائد) وعشنا معه خمس عشرة سنة في نعيم الصحة ثم جاء يوم فحدثت لنا نكسة وهو أمر هين فكما عالجنا أول مرة هو الوحيد القادر علي معالجتنا ثانية. تحدث النكسة إذا توقف المريض عن أخذ الدواء أو اتباع إرشادات الطبيب، وبالتالي هي مسئوليتنا نحن المرضي. إلا إذا كان الطبيب قد شخص المرض من البداية تشخيصًا خاطئًا وهو غير معقول طبعا، فالدواء الذي سقاه لنا بالملعقة في أفواهنا هو ما جعلنا أقوياء لنتحدي أكبر القوي في عالمنا فحسدنا كل العالم، لكن الطبيب فاجأنا وأعلن مسئوليته عن النكسة دون أن يشرح كيف، فقط تنحي، بالطبع كان يعلم أن الناس ساعتها لم يكن أمامهم أي اختيار آخر وقد قضي علي كل الزعامات وحل الأحزاب والمجالس النيابية وعطل الدستور وجعل اختيار الرئيس بالاستفتاء، ولذلك تنحي وعين لنا رئيسًا جديدًا ورفيقًا له في انقلاب يوليو واثقا أن الناس ستقول في تلك اللحظة العصيبة (اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش) خاصة والعدو علي بعد مائة متر من العاصمة. لكن انظروا ماذا قال المسئول الأوحد بعد ذلك بشهر حسب ما جاء بمقال الأستاذ صلاح منتصر في الأهرام من أيام نقلا عن كتاب لهيكل، قال لرئيس الجزائر في غرفة مغلقة (أنه حتي اللحظة غير قادر بالضبط علي فهم ما حصل! لكنه يري أن عامل الثقة في النفس كان أكثر من اللازم بل وصل الأمر إلي حد التبجح بهذه الثقة!) ثم تحدث عن أخطاء في الجيش وأضاف (مع الأسف نحن لم نستفد من دروس 1956 ولا من الانفصال وعلي هذا بقي صدقي محمود قائدا للطيران 11 سنة بعد السويس). من كان يقصد بكلمة (نحن)؟ نحن الشعب؟ نحن النخبة؟ أم نحن فريق الحكم الذي يعينه ويقيله وينقله وأحيانًا ينحره؟ اعترف أن (نحن) لم نستفد من أخطاء الماضي.. بينما كانت 56 والانفصال وحرب اليمن قد صورها لنا علي أنها انتصارات باهرة، بينما لم يحقق الجيش الانتصار إلا بعد وفاته بثلاث سنوات. لكن استخدام تعبير (النكسة) حتي اليوم يعني أن فكر المجتمع نفسه لم يتغير، فالخطأ الذي لم يتكلم عنه ناصر هو في تصوره لمعني الدولة قبل سياستها. وهل هويتها مدنية أم دينية وفي استراتيجية هذه الدولة وخطتها للنهضة وترتيب أهدافها، ولذا حتي الآن عندما نتكلم عن النصر والهزيمة لا يخطر علي أذهاننا إلا أمر واحد، قضية فلسطين، النصر في باقي الميادين مؤجل حتي إشعار آخر، انس التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والحضاري أو حتي الفني والرياضي والثقافي.. كل هذا سيحل عندما تحل قضية فلسطين، والآن أصبحت أسهل عندما حصرها الناصريون والإخوان وحزب الله وإيران في فض الحصار عن منظمة حماس، لا فك حصار حماس علي أهل غزة. وهي مهمة مصر وحدها. وهو ما يؤكد ثانية أننا حررنا الأرض ولم نحرر الفكر الذي كان سبب الهزيمة، بعض جيلي ومن سبقني بقليل أو تلاني يعرف هذه الحقيقة والبعض مازال مصرا علي غلق عينيه والمزايدة علي قضية فلسطين أكثر من بعض المتاجرين بها من الفلسطينيين أنفسهم، ولا عجب فهي تجارة رابحة، لذلك لا تصل إلي حل فلا أحد يغلق دكانا يتكسب منه. مؤخرًا في استفتاء لقناة ال«بي بي سي»، حول أزمة مصر مع دول حوض النيل تدخل كثير من العرب الذين لا علاقة لهم بالأمر ولا يقعون في قارة أفريقيا فقال معظمهم إنه يجب إلغاء الاتفاقيات الدولية حول النيل وإعادة تقسيم مياهه خصما من حصة مصر. ومازال الناصريون يلقنون الأجيال الصاعدة أن زعيمهم كان رمزا لعزة وكرامة الشعب العربي كله، وإن موته تاركا خلفه أربعة بلاد عربية وقد احتلت في عهده بالإضافة لاحتلال جديد لأراض فلسطينية ما هو إلا نكسة! بلاش نسأل أمال الهزيمة تبقي إيه؟ تعالوا نسأل ما النصر؟ آخر إجابة طحن هي قافلة الحرية التي قادتها تركيا لفك الحصار علي حماس تمهيدا لإعلان أنقرة عاصمة للدولة العثمانية مرة أخري! أهلا بالبكوات.