ذكرى "نكبة (أو اغتصاب) فلسطين". وقبلها ذكرى "تقسيم فلسطين", وقبلها ذكرى "وعد بلفور المشؤوم". سنوياً، يغتنم أهل الفكر والقلم الفرصة، فيكتبون، متذكِّرين ومذكِّرين إنْ نفعت الذكرى، وهي لا تنفع إلا المؤمنين "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ". "الذكرى" إنما هي في الأصل "تجربة"، والتجربة لا قيمة لها ولا أهمية تُذكر إن لم نخرج منها بما تستحق من دروس وعبر. ونحن حتى الآن لم نُظهر، في قولنا وعملنا، ما يؤكِّد ويُثبت أننا الأبناء الحقيقيون للتجربة الكبرى التي نسميها "نكبة فلسطين"، فميْلنا إلى "القدرية"، تفسيرا وتعليلا، نراه في منتهى الوضوح في اتخاذ كلمة "نكبة" تسمية، أو وصفا، لهذا الذي حدث في فلسطين سنة 1948. في تذكُّرنا وتذكيرنا، إنما أكدنا وأثبتنا أننا ما زلنا أبناء الوهم في انتمائنا إلى تلك التجربة، فلم نعللها، وإن عللناها لا نحسن التعليل، وكأن صنَّاع النكبة ما زالوا فينا، يتحكمون في تفكيرنا، ويوجِّهون أبصارنا، ويمسكون بأقلامنا، حتى ننكب عن النطق بالحقيقة، ففي النكب عن الحقيقة، وعن النطق بها، تستمر "النكبة"، التي فيها من "الحاضر" أكثر كثيرا مما فيها من "الماضي"، ف "النكبة"، التي تسمى "نكبة فلسطين"، أقرب إلى "المضارع" منها إلى "الماضي". اذكروا لي سببا واحدا من الأسباب الحقيقية التي أنتجت "نكبة فلسطين" حتى أقيم لكم الدليل على أن هذا السبب ما زال على قيد الحياة، يؤدي عمله على خير وجه، وقد ولد العشرات من أمثاله، فأسباب "نكبة فلسطين" إنما هي غيض من فيض الأسباب التي أنتجت، وتُنْتِج، نكباتنا اليوم. في "النكبة الصغرى"، أي "نكبة فلسطين"، حدث الآتي: نشبت الحرب الأولى بين العرب وإسرائيل، وجاء "جيش الإنقاذ العربي" ليقول للفلسطينيين: جئناكم لنقضي على الصهاينة ودولتهم، فاتركوا بيوتكم وقراكم، ولسوف تعودون إليها، بعد أيام، آمنين.. اتركوها حتى نؤدي مهمتنا على خير وجه، وحتى لا يصبكم مكروه. وخرج عشرات الآلاف من الفلسطينيين ومعهم المفاتيح، فنصرة الدول العربية لهم كانت الوهم الكبير الذي لم يصدِّقوا أنه وهما إلا بعد فوات الأوان. وقاتلت الجيوش العربية وكأنها تقاتل من أجل صنع "نكبة فلسطين"، فالهُدَن والأوامر العسكرية لم تأتِ إلى لإنقاذ "الصهاينة" من هزيمة عسكرية مرجَّحة أو مؤكَّدة. والآن، لكم أن تقارنوا بين نكبتين: "نكبة فلسطين" تلك ونكبة الاعتراف العربي بأن لإسرائيل الحق في العيش في أمن وسلام حتى في الأرض الفلسطينية التي احتلتها في حرب 1948. النكبة الثانية إنما هي خير دليل على أن أسباب النكبة الأولى قد زادت واتسعت وترسخت. الذكرى تنفع "المؤمنين" الذين لن يتأكد إيمانهم ويظهر إلا إذا فهموا "نكبة فلسطين" وفسَّروها على أنها "إنجاز عربي" في المقام الأول، فالدهر العربي نكب فلسطين، فكانت "نكبة فلسطين". وعلى هؤلاء "المؤمنين" أن يكفروا ب "سورة نكبة فلسطين" التي أنزلها علينا أرباب النكبة من أبناء جلدتنا، والذين لم يبدأوا عملهم في فلسطين لينهوه فيها، فعملهم ما زال مستمرا في فلسطين، وفي خارج فلسطين، فما الفرق، في المهمة والعمل، بين "جيش الإنقاذ" وبينهم؟! ما الفرق بين ذلك الجيش وبين الدول التي لا تستطيع الاجتماع على مستوى القمة لتخاطب إسرائيل قائلة: إننا على استعداد للاعتراف بك، ولإقامة السلام وتطبيع العلاقة معك، إذا ما سمحتِ لنا بمد الفلسطينيين بما يحتاجون إليه من طعام وأدوية ووقود..؟! أليس هذا العجز خير دليل على أن "نكبة فلسطين" ليست بالذكرى حتى نتذكِّرها ونذكِّر بها؟!