ليس مصادفة أن يأتي ذكر الأب متي المسكين في سياق حديثنا عن تفعيل رسالة الرهبنة القبطية الروحية والسلامية في عالم مضطرب يموج بتيارات متلاطمة ومتناقضة، إذ يمثل هو نفسه تجربة حية في مسيرة التفعيل هذه، وتوقفنا اليوم معه ليس فقط لحلول الذكري الرابعة لرحيله إلي السماء (الخميس الثامن من يونيو عام2006)، فالحديث عنه وحوله لا يخضع لقواعد الرثاء والبكائيات، فالعظماء يبقون نبع عطاء لا ينضب، اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله انظروا إلي نهاية سيرتهم فتمثلوا بإيمانهم (عب7:13)، وهو الإيمان الذي يقف وراء قوة كلماته، بالإيمان قدم هابيل لله ذبيحة أفضل من قايين فيه شهد له أنه بار إذ شهد الله لقرابينه و به وإن مات يتكلم بعد (عب4:11)، كانت ذبيحة التعليم بحسب الآباء هي الأفضل. دعونا نطالع معاً رؤيته للرهبنة ربما تجد من يفعلها فيقيل الرهبنة من عثرتها، بعيداً عن حسابات المواءمات والتوازنات التي تقف وراء العديد من اشكاليات الخدمة وتفسر عقمها. يقول في اجابته عن الشروط التي تضمن صحة الرهبنة ونجاحها : أن يكون دافعها انجيلياً صرفاً، لا عن مجرد شهوة أو غية، أو عن تجربة للطريق، أو عن يأس من العالم ، أو عن شجاعة بطولية، أو محاكاة وتقليد، أو عن خدمة ووظيفة؛ فهذا كله يحكم علي هذه الرهبنة من أول خطوة أنها نموذج بشري يظل فاقداً للعنصر الإلهي الذي يجعلها إلهية يضمن لها الطريق حتي نهايته. فهي قد تكون رهبنة ناجحة من المنظور البشري حينما يحقق الراهب أعمالاً وخدمات كبيرة، ولكن هذه الأعمال عينها يستطيع أن يعملها ويعمل أعظم منها من هو ليس براهب. لكن الرهبنة الإلهية لا تقاس بالأعمال والخدمات بل تقاس بمقدار ما تحقق وجود الله في حياة الراهب، حيث يحقق الراهب برهبنته كياناً بشرياً إلهياً قائماً بذاته. وإلي هنا يكمل منتهي قصد الرهبنة الحقيقية، فالرهبنة الإلهية (التي هي بحسب قصد الليه ومسرته) هي شهادة حية وسط العالم لوجود الله فعَّالاً وعاملاً في انسان تمسك بكلام الله، حيث يصبح بذاته كنيسة، ويصبح سنداً للكنيسة واستعلاناً لمضمونها. ويستطرد الفارس العابر بقوله: وعلامات نجاح الرهبنة الإلهية المستندة بقوة علي كلمة الله ووعوده، هي علي وجه الاختصار: الفرح الدائم، انفتاح الوعي القلبي والفكري لكلمة الإنجيل، إدراك كل أسرار الخلاص الذي هو مضمون الإنجيل، وتوصيل رسالة الخلاص كما يعيشها ويحسها الراهب لكل من يطلبها. ومن يعُدْ لكتابات الأب متي المسكين يجد رؤية واضحة لم تفارق سطوره حتي آخر عمره، بدا ذلك واضحاً في مقدمة كتابه الأول «حياة الصلاة الأرثوذكسية» الذي صدرت طبعته الأولي 1952، يقول في طبعته الثانية 1968: العالم اليوم متعطش لشهادة إيمان حي بشخص يسوع المسيح، لا ليسمعها ولكن ليعيشها، فالكتب التي تتكلم عن المسيح ما أكثرها، والمعلمون الذين يتكلمون عن المسيح ما أكثرهم أيضاً؛ لكن الذين يعيشون مع المسيح ويتكلمون مع المسيح قليلون جداً.. إن المسيح أعطانا لا أن نعرفه أو نؤمن به فقط بل أن نحيا به، وأعطانا الروح القدس لا ليعلمنا فقط بل ليسكن في داخلنا، يغير شكلنا ويجدد ذهننا ويأخذ كل يوم مما للمسيح ويعطينا، فالحياة في المسيح حركة وخبرة وتجديد ونمو بالروح لا يتوقف. ويواصل: النفس التي تحمل صليبها لا تنجذب وحدها للمسيح، ولكنها دون أن تدري ينجذب خلفها كثيرون «اجذبني وراءك فنجري» (نش4:1) لأن النفس البشرية ليست أبداً في عزلة عن النفوس الأخري، فبلوغ أي نفس إلي ملكوت الله هو مكسب للعالم بصورة سرية، والطريق المطروق يسهل السير فيه، ورجال الصلاة علامات ثابتة علي الطريق تنير إلي أبد الدهور. انتهت كلمات الرجل وبقي أن نقول له كم افتقدناك كما يفقتد البدر في الليلة الظلماء، لكننا نلوذ بفكرك ورؤاك المستنيرة في مواجهة تيارات الإظلام والتغييب، والشخصنة وتحول السلطان الروحي إلي سلطة متجبرة تحتاج الي استيعاب درس التاريخ الأثير، أن دوام الحال من المحال.