الذين ترتبط الشخصية الفلكلورية الإنجليزية «روبن هود» في أذهانهم بهذا الرجل الذي يأخذ من الأغنياء لكي يعطي الفقراء، والذي يعيش مع عصابته الخارجة عن القانون في غابة «شيروود» في «فونتنجهام» سيشعرون بالصدمة حتمًا أثناء مشاهدتهم للطبعة الجديدة من هذه الشخصية في فيلم (Robin hood) الذي أخرجه السير «ريدلي سكوت» وقام ببطولته «راسيل كرو» ليكون فيلم الافتتاح لمهرجان «كان» في دورته الثالثة والستين. من حق صاحب القصة الجديدة «برايان هيدلجيلاند» أن يقدم رؤيته لمقدمات ظهور أسطورة «روبن هود»، ولكن أساس ارتباط الجمهور بالشخصية يرجع إلي انتمائها للفقراء ودفاعه عنهم في حين نجد في الفيلم شخصية تتمالق مع البارونات الأثرياء، بل إن حبيبته المعروفة «ماريان» تمتلك في الفيلم 5 آلاف فدان، وصراعها الأساسي مع الملك «چون» الذي يتصادم مع النبلاء، وعندما يتم إعلان «روبن هود» خارجًا علي القانون ليهرب إلي الغابة، في هذه اللحظة بالذات ينتهي الفيلم! الغريب أيضًا أن صورة «روبن» الجديدة تبدأ من أعلي من المطالبة بالحرية للشعب الإنجليزي في مواجهة ظلم وطغيان الملك «چون»، بل إن الفيلم يعتبره بطلاً بالوراثة وامتدادًا لوالده الذي شارك في إعداد وثيقة تقيد سلطات الملك المستبد المطلقة. قوة «روبن هود» ترجع إلي أنه تجسيد لفكرة أن الشعوب إذا لم تجد من يصنع العدل من حكامها، صنعت هي الذين يحققون لها ذلك أو قد تقوم أيضًا باختراعهم، أما «روبن» الجديد فقد بدأ من وضع ما يشبه الدستور بمعناه الحديث لينتهي إلي الغابة يسرق من الأغنياء.. هل هذا معقول؟! اعتراضنا علي فيلم «روبن هود» طبعة 2010 لا يصادر حق أي كاتب في تقديم رؤية جديدة بشرط أن يكون ذلك متسقًا مع مغزي الشخصية نفسها. فيلمنا يرسم شخصية «روبن لونجسترايد» (راسيل كرو) كأحد رماة السهام المهرة العائدين مع «ريتشارد» قلب الأسد إلي انجلترا بعد عشر سنوات من الحروب الصليبية في الشرق في الطريق يتوقف «ريتشارد» لمزيد من النهب لإحدي القلاع الفرنسية. «روبن» سيمتلك الشجاعة ذات مرة للإجابة عن سؤال «ريتشارد» عما إذا كان الله راضيًا عما فعله، سينتهز الفرصة ليذكره بمذبحة «عكا» التي قتل فيها عشرات المسلمين من الرجال والنساء والأطفال. سيبدو «ريتشارد» سعيدًا بالعثور علي جندي لا يعرف النفاق، ولكنه سيعاقبه هو وزملاءه، ولن يمنع تنفيذ العقوبة إلا اغتيال «ريتشارد» نفسه، وتقود المصادفة «روبن» لكي يعود إلي انجلترا بتاج «ريتشارد»، كما ينتحل شخصية فارس قتل أمامه هو «روبرت لوكسلي» الذي طلب منه أن يعود بسيفه إلي والده النبيل الكفيف «والتر لوكسلي» (الممثل القدير ماكس فون سيدو). يأخذ الصراع طابعًا فوقيًا علي مستويين: الملك الجديد الشاب المتغطرس «چون» (أوسكار إيزاك) الذي يفرض مزيدًا من الضرائب علي النبلاء الذين دفعوا «دم قلوبهم» لتمويل حملة ريتشارد الصليبية بالمال وبالرجال، وفي المستوي الثاني سيتآمر الملك «فيليب» الفرنسي لغزو انجلترا بالتعاون مع «جود فري» الإنجليزي شقيق «چون» في الرضاعة، ولن يفهم أبدًا لماذا يفعل «جون فري» (مارك سترونج في أداء جيد) المهم أن خطوط الصراع بأكملها بعيدة عن عالم الفقراء في انجلترا الذين لا يفرق معهم أن يكونوا من خُدّام النبلاء أم من خُدّام الملك. وحتي عندما تظهر «ماريان» (كيت بلانشيت) التي تقول الحكايات الأصلية أنها مجرد خادمة فقيرة جميلة، سنكتشف بعد فترة قليلة أنها أيضًا تخوض صراعًا من أعلي. إنها أرملة لابن (والتر لوكسلي) الذي أعطي سيفه إلي «روبن هود» بعد مصرعه. وهي وريثة لخمسة آلاف فدان، ومشكلتها في استيلاء الكنيسة علي مخزونها من البذور لإرساله إلي قرية أخري. كما أنها تعاني من تحرش مأمور «توتنجهام» بها، والغريب أن «روبن» الذي انتحل شخصية زوجها الراحل لتسليم تاج «ريتشارد» الراحل سيوافق علي أن يكون زوجها صوريًا بناء علي اقتراح من «والتر لوكسلي» الكفيف حتي لا تذهب الأرض إلي الملك «چون»، وفجأة سيخبر «والتر» الشاب «روبن» بسرّ الأسرار ليتحول بعدها رامي السهام إلي مدافع عن الحريات. الحكاية يا سيدي أن «روبن» هو ابن رجل كان يعمل في صناعة البناء، ولكنه أيضًا من الثوّار الذين اكتشفوا أنه إذا كان الرعايا يحتاجون الملك فإن الملك بحاجة إلي رعايا، ولذلك وضعوا وثيقة لحقوق الشعب، ولكن الأب دفع حياته ثمنًا لهذه الوثيقة وتخيل معي أن «روبن» لا يعرف هذه القصة منذ وفاة والده وهو في سن السادسة حتي أصبح رجلاً فحلاً مثل «راسيل كرو» الهدف كله أن يتحول «روبن» إلي قائد للحرية بالوراثة، ثم يضاف عبئًا جديدًا علي الشخصية - وأرجو أن تلاحظ أنها لم تتحول إلي أسطورة بعد - عندما يقود أيضًا حربًا ضد العدوان الفرنسي علي الشواطئ الإنجليزية، وهنا تلتقي فكرة حرية الإنجليز داخل وطنهم بفرض الوثيقة علي الملك «چون» في فكرة استقلال وطنهم ومنع الفرنسيين من احتلاله، وفي الحالتين يبرز «روبن» في المقدمة رغم أن أحلامه في البداية لم تكن تتجاوز مساعدة الأرملة الثرية والجميلة علي زراعة أرضها! تصل ذروة الأحداث بنجاح النبلاء المتحالفين مع الملك «جون» وبمساعدة أساسية من «روبن هود» وزملائه في صد العدوان الفرنسي، ولكن الملك «جون» يتراجع عن وعده بالموافقة علي الوثيقة، بل ويعلن «روبن هود» خارجًا علي القانون بتهمة السرقة وانتحال صفة فارس، ويصبح من حق أي إنجليزي أن يقتله دون عقاب، وينتهي الفيلم وقد أصبح «روبن» ومدام «ماريان» طريدين في غابة «شيروود» مع كلمات من إعدام عن العودة إلي الطبيعة، وهكذا يعتقد صناع الفيلم أن تلك هي بداية الأسطورة، وهم لا يعلمون أنهم قضوا عليها بتحميل الشخصية في - طور تكون وعيها - ما لا تتحمل، ومن يدري فقد يكون هناك جزء ثان يقود فيه «روبن» الفقراء لاسترداد ميراث زوجته صاحبة الخمسة آلاف فدان! لم يعد المخرج «ريدلي سكوت» محتاجًا إلي الاشارة إلي قدراته في تقديم أجواء وعوالم الفيلم التاريخي، ولا براعته في تقديم المعارك، ولكنه مسئول بالقطع عن صورة «روبن هود» الجديدة غير المقنعة التي أثرت بالتأكيد علي قدرة «راسيل كرو» علي تجسيدها أو توصيلها إلي المتفرج. ولكن ممثلين آخرين كانوا أكثر بروزًا خاصة الرائعة «كيت بلانشيت» التي لعبت شخصية قوية يمكن أن تعتبرها امرأة بمائة راجل، أرجو أن تلاحظ كيف تستخدم هذه الممثلة القديرة لغة جسدها وعينيها للتعبير عن رغبتها في «روبن» ومحاولتها كبح جماح هذه الرغبة رغم وجودهما في مكان واحد وبالمناسبة لم يكن مقنعًا ألا تعرف منطقة «نوتنجهام» كلها أن «روبن» ليس هو «روبرت لوكسلي» الأصلي وكأنه لم يكن يعيش بينهم. ولا ننسي بالطبع أداء القدير «ماكس فون سيدو» في دور «والتر لوكسلي» الأب الكفيف. إنه مشخصاتي من زمن الكبار، وقد أعطي دوره ثقلاً ورسوخًا واكتسح «راسيل كرو» اكتساحًا في مشاهدهما القليلة المشتركة، وهناك إجادة أيضًا في حدود الدور لكل من «أوسكار إيزاك» في دور الملك «جون»، و«مارك سترونج» في دور «جود فري» الخائن الشرير، و«إيلين اتكينز» في دور الملكة الأم. «روبن هود» في طبعة 2010 يحمل أفكارًا أكبر من اللازم مما يبعده عن بساطة وعفوية واقتراب الشخصية من الجمهور. لقد اعتبره صناع الفيلم قائد مسيرة الحرية وحقوق المواطن في مواجهة استبداد الملك، واعتبروه قائدًا لحرب الدفاع عن إنجلترا ضد الغزاة، ومع كل ذلك لم تبدأ الأسطورة بعد؟! تري ماذا سيفعل فوق ذلك في الغابة مع عصابته المقبلة من الحروب الصيلبية؟ هل سيذهبون مثلاً إلي المريخ لنشر مبادئ العدل والإخاء والمساواة؟!