أفكار "جورج سوريل" حول العنف، رسمت الخطوط الفاصلة بين الفلسفة السياسية الحديثة والفلسفة السياسية المعاصرة ، ناهيك عن انها أحدثت صدمة كبيرة ، وماتزال تحدث نفس الصدمة الي الآن ، لدي الكثيرين، لأنها "تدفعنا للتخلي عن كل أمل كاذب وخداع، مفتعل، وكل تفاؤل زائ، فالعنف واقع نعيشه، والعنف المضاد نتيجة طبيعية ولازمة له. بل تاريخ العالم يبدو كأنه تاريخ العنف والعنف المضاد، كما يقول أستاذي مجدي الجزيري: "ان التشاؤم عند سوريل فلسفة للسلوك والفعل أكثر من كونه نظرية للعالم، وهي فلسفة تضع في اعتبارها أهمية المضي قدما تجاه التحرر من مأساوية الحياة عن طريق المعرفة التجريبية الصحيحة بالعوائق التي تعترض تخيلاتنا من جهة والوعي العميق بضعفنا الطبيعي من جهة أخري" (1). الأهم من ذلك انه طرح مجموعة من التساؤلات تنم عن جدة وأصالة فلسفته في العنف، تدور حول العلاقة بين العناصر العقلية واللآعقلية في الواقع نفسه، كما يقول الجزيري، مثل: هل العقل وحده هو الذي يحكم حياتنا الانسانية؟ وما هي العلاقة بين العقل واللاعقل في حركة الواقع؟ وما مقدار فعالية الفلسفة في توجيه الواقعة. هذه التساؤلات ضمنها كتابه "محاكمة سقراط" ذ le proces de socrate عام 1890 الذي أعاد فيه سوريل محاكمة سقراط - علي أسس جديدة وحيثيات مغايرة. "فقد نصب سوريل من نفسه قاضيا، وكانت التهمة التي وجهها لسقراط هذه المرة ليس "إفساد الشباب"، وليست تجديفه أو ألحاده، وانما هي أغرب تهمة في تاريخ الفلسفة. تهمة سقراط انه أعلي من شأن العقل وأخضع كل الأشياء لقبضة العقل وتجريداته وبذلك فصل بين العقل وحياة الفعل والممارسة. مما يعني ضمنيا عدم ايمان سوريل بقدرة العقل علي تغيير الواقع والحياة الانسانية أو قل تسيير ودفع الحياة الانسانية" (2). وهو في ذلك يعكس روح عصره، ويتجاوزه بالنقد في الوقت نفسه ، فقد كانت أبرز مظاهر العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، التمرد علي العقل، فالثورة علي العقل في تلك الفترة سارت في خط مواز للتمرد والثورة علي المذهب الوضعي المنتشر آنذاك، ومن أبرز زعماء تلك الثورة: "نيتشه وفرويد اللذان حاولا النفاذ الي ما وراء الواجهة العقلانية" (3). وتركزت مهمتهما في الكشف عن الجانب القاتم المحتمل من حياة النفس البشرية. وساهمت الداروينية في تأكيد هذا الاتجاه عندما نبهت الي الأصل الحيواني في الانسان، فشجعت دراسة الجانب البدائي والحيواني فيه، وفجرت الاحداث السياسية والاجتماعية وقتئذ في أوروبا ،كل نوازع الكبت والقهر والعدوان. وحسب "جوزيف ساتن": "فقد تميزت تلك الفترة باليأس الذي هو المصدر الداخلي للقلق، والعنف الذي يعبر عن المظهر الخارجي للقلق، وتحطيم قيمة الفرد لأنه أصبح يري بوصفه مجرد خلية في البنية الاجتماعية، وتقليص حريته عن طريق اخضاعه المتزايد لارادة الدولة". وأطلق " ساتن " علي الفترة الممتدة من ( 1880- 1945 ) " عصر القلق"،: "فقد سيطر علي اتجاهات الفكر أربعة من الفلاسفة مزقوا أطر الفكر التقليدي وحطموا السدود التي كانت تمنع الفكر من الانطلاق في كل الاتجاهات، وهم: داروين وماركس وكيركجارد وفرويد" (4). وأقلق فرويد العالم وأيقظه من غفوته بنظراته عن الجنس والعصاب والكبت، وغالي نيتشه في عرضه "العنيف" للدوافع الانسانية العارية، فوراء المنطق "توجد أحكام القيمة التي تقوم بدورها في حجب الرغبات الاساسية للانسان (أي التي تهدف الي الحصول علي القوة والتحرر أو الانتقام. فقد أصبح عالم نهاية القرن التاسع عشر بلا أتجاه أو بمعني أدق: عالم يحاول الافلات من اللاتوجيه، وحسب "نيتشه" في كتابه "العلم المرح" عام 1882 : " فان الإوروبيين قد تقاذفتهم الأمواج والتيارات بعد ان حرقوا معابرهم من ورائهم وألقوا بأنفسهم في قوارب تحت رحمة أليم". وكان مالاحظه هو ذروة قرن من الفكر النقدي والشك القاتل، وعدم إدراك أين يقع اليقين، وما يخبئه المستقبل المجهول. (5) تري هل نعيش الآن، في بداية القرن الحادي والعشرين، نهايات القرن التاسع عشر؟ الهوامش: 1- محمد مجدي الجزيري: العنف والتاريخ عند سوريل، دار الصافي للطباعة والنشر، 1991 ص 57. 2- المرجع نفسه ، ص : 3. 3- ميشيل فوكو: جينالوجيا المعرفة، ترجمة: أحمد السطاتي وعبدالسلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدارالبيضاء ذ المغرب، الطبعة الأولي 1988 ص: 35. 4- Satin ( J ) : The Humanites . hand book , part 2 , New York : Holt , Rinehart and winston , Inc , 1969 , p . 410 . 5- باومر : الفكر الأوربي الحديث ، الجزء الثالث ، ص: 127 .