تابعت باهتمام خلال الأسابيع الماضية المناظرة الفقهية الممتدة التي تدور في المملكة العربية السعودية حول موضوعات مهمة للغاية مثل : موضوع الاختلاط بين المرأة والرجل في الأماكن العامة ، وموضوع النقاب المفروض علي المرأة وموضوع إغلاق المحلات التجارية أثناء صلاة الجماعة الاجبارية وكلها تكليفات تقوم برعايتها الشرطة الدينية المعروفة باسم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذات النفوذ النافذ في المجتمع السعودي. في نفس الوقت تحتدم في أوروبا رغبة قوية لدي غالبية الأوروبيين في اتخاذ اجراءات قانونية صارمة لحظر ارتداء الزي الذي يخفي وجه المرأة في الأماكن العامة باعتبار أن اخفاء الوجه في الأماكن العامة يتناقض مع قواعد الحياة المدنية، ومع النظام العام القائم علي التحقق من الشخصية. في نفس الوقت يحدث في مصر كبري الدول العربية والدولة الأقدم تاريخيا في الأخذ بأسباب الحياة الحديثة والأكثر اتصالا بالثقافات الأخري أن تيارا متشددا بدأ يقتطع مساحة في المجتمع المصري باقناع بعض النساء بارتداء أزياء تخفي الوجه بزعم أن ذلك وجه من وجوه التقرب الي الله وأن ذلك فرض من فروض الدين ، وهو الأمر الذي أكد علماء الدين المرموقون في مصر كشيخ الأزهر الحالي والسابق يرحمه الله وفضيلة المفتي أنه ليس عبادة وانما هو عادة اجتماعية. فهمت من هذا الكلام أن الدين الاسلامي لم يفرض علي المرأة اخفاء وجهها وبالتالي تحدد المجتمعات ما يحقق مصالحها المدنية وفق ما يراه ولاة الأمور حسب النظم المطبقة في كل مجتمع ، وأن المرأة التي تصر علي ذلك يكون لديها أسبابها الخاصة بها التي لا مسوغ لفرضها علي المجتمع . عجبت من التناقض في الاتجاه بين ما يجري في كل من السعودية ومصر، فالأولي تتجه الي رؤية ثقافية تفصل مابين العادة والعبادة ومصر يجرها البعض الي الخلط مابينهما وكأن ما يحدث من حولنا لا يعنينا في شيء. نظرا للروابط الانسانية العميقة التي تربط بين الشعبين في مصر وفي المملكة العربية السعودية ، والتأثير المتبادل للثقافة السائدة في كل من مصر وبلاد الحرمين الشريفين علي الناس في كلا البلدين . فاننا نهتم كثيرا بما يحدث في المملكة وخاصة ما يتعلق بالتطورات الثقافية، من هذا المنطلق أعرض مقتطفات حول هذا الموضوع من مقال الكاتب السعودي جمال خاشقجي، رئيس تحرير جريدة الوطن السعودية يوم الجمعة الماضي بعنوان «الاختلاط وصلاة الجماعة.. لغط وسوء فهم وظن» أشار فيه إلي الحوار الذي تشهده السعودية حول الاختلاط وإغلاق المحال التجارية في أوقات الصلاة ، يقول الكاتب: كمتلق لحوار أصحاب الفضيلة العلماء الجاري من حولنا حول مسألتي الاختلاط وصلاة الجماعة، لم أجد أو أفهم أو أستنتج أن هناك من شجع علي اختلاط، أو من دعا إلي العزوف عن صلاة الجماعة وقلل من قدرها. فإذا كان الأمر كذلك، بعيدا عن تهويلات «صناع الكوابيس» فلم إذن هذه الضجة والتنادي بالبيانات والفتاوي وكأن الإسلام بات مهددا في بلاد الإسلام؟ كل ما في الأمر أن ثمة حوارا صحيا يجري داخل الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اجتهاد شجع عليه انتشار العلم الشرعي، والصحوة الوطنية السائدة، مع تراجع دور الحزب والرأي الواحد والتعصب والغلو. ما فهمته مجرد طرح تنظيمي يستند إلي فقه واجتهاد تعيد به الهيئة ترتيب أولوياتها بما يبعدها عن المصادمة مع العامة، ويفرغها للمهام الأكبر والتحديات الحقيقية التي تأكل في البلد من انتشار مخدرات وضعف الرادع الداخلي والإرهاب والتكفير. أنا وغيري كثير نختلط رجالا ونساء في إطار العائلة أو العمل، نفعل ذلك بعفوية، وكل منا غيور يعرف حدوده، وكل منا ما اختار امرأة وجعلها زوجة له تحمل اسمه وابنه إلا وهي أهل للثقة، فلا يجعل نفسه رقيبا عليها.. الهيئة غير مسؤولة عمن يرسل ابنته إلي جامعة مختلطة، ولا عن المرأة التي تعمل وتشقي من أجل أسرتها وبيتها 8 ساعات يوميا بل أكثر في بنك أو مصنع أو مستشفي، بل يجب عليها أن تحميها بسن أنظمة تمنع وتجرم التحرش قولا وفعلا وتلميحا. الدعوة الإصلاحية من داخل الهيئة تقول إنه ليس من حق الهيئة الحجر علي اختيار الآخرين طالما أنهم يفعلون ما يفعلون في دائرة اجتهاد مقبول، وإن لم يكن مرجوحا دينا وثقافة لدي الأخ العضو وشيخه الجليل. كم سترتاح الهيئة وتريح لو فعلت ذلك. أما صلاة الجماعة، فما سمعت سوي أن الدولة، رعاها الله، مأمورة بالعناية بالمساجد وتأمين مصالحها وفرشها وإنارتها وجعلها آمنة، ينادي فيها بالصلاة ثم بعد ذلك للمسلم أن يستجيب لذلك النداء. والطرح الإصلاحي الجديد هو أن الهيئة تذكر الناس بالصلاة وتدعوهم إليها ولكن لا تحاسبهم إن تخلفوا وغير ملزمة بإحضارهم لها، وفي الحديث عن إغلاق المحلات للصلاة شأن اقتصادي وآخر عبادي، ففي الاقتصاد بات الإغلاق للصلاة مكلفا، ومع وجود المساجد القريبة والمصليات في الأسواق فلن يكون هناك تعارض بين سوق يعمل بينما يتناوب العاملون فيه للصلاة، لمَ لا نجرب هذا؟ كم يكون جميلا لو اقتنع إخواننا أن الإسلام قائم في هذه البلاد بالاختيار وطاعة الله بالحب، ولو قدر الله أن تعطلت سيارات الهيئة جميعها في يوم واحد قبيل صلاة فإن المساجد ستمتلئ بالمصلين لأنهم سمعوا من يحبونه ويطيعونه يناديهم أن حي علي الصلاة حي علي الفلاح، لا من يصرخ فيهم «صلِّ.. صلِّ». الجدير بالذكر أن نفس الجريدة وصحفا سعودية أخري نشرت في نفس اليوم الجمعة صورة تظهر العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبدالعزيز محاطا بعدد من النساء في ظل احتدام النقاش في المملكة حول مشروعية الاختلاط بين الجنسين. أظهرت الصورة خادم الحرمين الشريفين وولي العهد الامير سلطان بن عبد العزيز محاطين بأكثر من 30 سيدة شاركن في مؤتمر عقد في مدينة نجرانجنوب البلاد. الصورة تم نشرها من غير تعليق وقد رأيت أن أضع لها تعليقا من عندي يقول انها رسالة واضحة تدعم الحوار المجتمعي في السعودية الذي بدأت تظهر ملامحه منذ تولي العاهل السعودي وتؤذن بتراجع دور الرأي الواحد والتعصب والغلو.