وسط عدد كبير من قري مركز أبو كبير بمحافظة الشرقية، تقع قرية قراموص التي تشعر وأنت تتجول بها كأن الفراعنة مازالوا يعيشون فيها حتي الآن. فهي القرية الوحيدة في مصر التي يعتمد حوالي 90% من سكانها في رزقهم علي تراث وتاريخ الأجداد، حيث يقومون بزراعة نبات البردي وتصنيعه وبيعه للبازارات والأماكن السياحية، إلا أن هذه الميزة مهددة بالضياع بسبب عوامل عدة نرصدها في هذا التحقيق. لم تكن قراموص قبل ما يزيد علي 30 عامًا تعرف شيئًا عن البردي ولم يفكر أحد في زراعته وتصنيعه ولكن الصدفة وحدها هي التي قادتها لكي تكون الأشهر والوحيدة في مصر التي تقوم بذلك. «عادل عبدالسلام» أحد سكان القرية قال إن الفضل في انتشار زراعته وصناعته يعود إلي «أنس مصطفي» أحد أبنائها ويعمل فنانًا تشكيليًا، شاهد البردي مزروعًا في مكان ما بالقاهرة، وفكر في زراعته، ولم يكن يتوقع أن يكون مجديًا خاصة عندما فوجئ بأنه مطلوب نظرًا لكونه سلعة سياحية رائجة، وبدأ التوسع في زراعته بل وأنشأ ورشة لتصنيعها حتي انتشرت في القرية كلها. ولأن زراعة وتصنيع البردي لا يحتاج لإمكانيات كبيرة، يشير عادل إلي أنه نادرًا ما تجد منزلاً بالقرية لا يعمل أفراده في البردي، لأنها مهنة مربحة وأحيانًا تتم الاستعانة بفتيات من خارج الأسرة للعمل. سر.. البنات تصنيع البردي يحتاج -حسب الحاج عبدالعال أحد مزارعي وصانعي البردي بالقرية -إلي التعامل لفترة طويلة مع الماء وهو ما كان سببًا في أن أغلب مراحل التصنيع تقوم بها الفتيات، خاصة أن ذلك يتطلب أيضًا الوقوف لفترة طويلة وهو ما يرفضه الشباب. وعن كيفية تصنيعه، يقول إن البردي بعد حصده من الحقول، يتم تقطيعه إلي أعواد وشرائح بأطوال مختلفة، بعد ذلك يتم غمره في الماء المملوء بالبوتاس لفترة ثم الماء المضاف إليه الكلور لتنظيفه من أية شوائب عالقة. ويواصل: ولأن الشرائح مختلفة الأطوال، ترص فوق بعضها بمقاسات وأحجام مختلفة علي ألواح الكارتون والأقمشة لامتصاص الماء وحتي لا تلتصق مع بعضها لأنها توضع أسفل مكبس لضغط شرائح البردي مع بعضها لتكون ورقة واحدة متماسكة بعد أن تجف تمامًا. وفيما يتعلق بمرحلة الرسم والتلوين، في البداية كان يتم تصنيع البردي فقط ويباع بعدها - أحيانًا عن طريق وسطاء - للأماكن السياحية والبازارات، وفي وقت ما فطن أهل القرية إلي أن رسم شخصيات فرعونية وتلوينها علي الأوراق أفضل خاصة أنه يرفع سعرها من 50 قرشًا سادة إلي جنيه ونصف ملونة. وأغلب الرسومات والمناظر عادة ما تكون مستوحاة من الحضارة الفرعونية، خاصة أن الأهالي هنا يدركون أن البردي تراث من الحضارة المصرية القديمة وهو ما يعجب أغلب الزبائن، مما يرفع الطلب عليها ويدفع السائحين للإقبال علي شرائها. أزمات ومشاكل من يعرفون بحكاية قراموص مع البردي ونجاحها في زراعته وتصنيعه يؤكدون أنها تجربة متميزة وفريدة ولا يوجد مثيل لها ولكن، هذه التجربة تعترضها عدة معوقات وأزمات تهددها دائمًا وحسب بعض الأهالي قد تتوقف بسببها. البردي أولاً وأخيرًا سلعة سياحية وإذا ما تأثرت السياحة بأية أحداث وانخفضت حركتها، تنخفض معها حركة بيع وشراء البردي، وهو ما أشار إليه «عبدالعليم شاكر» أحد زارعي وصانعي البردي في قراموص، مضيفًا أن المواسم التي تزدهر فيها السياحة، تشهد القرية اقبالا كبيرًا من التجار وأصحاب البازارات وأحيانًا السائحين لشراء البردي خاصة أن السعر يختلف إذا ما كان مرسومًا أم لا، وخلال هذه المواسم يزداد الربح والرزق بشكل كبير للجميع. «وجيه عبدالحميد» من أهل القرية، يلقي مزيدًا من الضوء علي المشاكل التي تهدد البردي هناك والحلول المقترحة لإنقاذها، مشيرًا في البداية إلي ميزة مهمة ترتبت علي زراعة وتصنيع البردي والمتمثلة في أن الدخل المرتفع الناتج عنها كان بديلاً عن السفر للخارج بحثًا عن الرزق، يقول: «بدل ما نسافر ونتبهدل بره اشتغلنا في البردي أحسن لأن فلوسه حلوة والحمد لله كتيرة». وأضاف أن نقص الأيدي العاملة من أبرز الأزمات التي تعترض دفع العديد من المزارعين إلي مشاركة أسرهم في تلك الصناعة خاصة أنها غير مرهقة ولا توجد صعوبة في تعلمها. ارتفاع الأسعار ويؤكد أن أكبر مشكلة تواجه صناعة البردي الارتفاع الجنوني في أسعار المواد والكيماويات المستخدمة في الصناعة، ويضرب مثالاً علي ذلك، قائلاً: إن شيكارة الأسمدة كنا نشتريها ب30 جنيها وحاليا وصل سعرها إلي 100 جنيه، كذلك الصودا الكاوية «البوتاس» بعدما كنا نشتري الشيكارة بسعر 25 جنيها، وصل سعرها حاليا إلي 120 جنيها، يقول: «ها نعمل إيه، إحنا مش موظفين ورزقنا يعتمد علي البردي والمشاكل دي كلها ممكن تخليه ينقرض». ولفت وجيه إلي أن المكسب الذي يحققونه مهما كان كبيرًا، لا يوازي الأرباح التي يحققها تجار وأصحاب البازارات الذين نبيع لهم أوراق البردي لأنهم يبيعونها بالدولارات للسائحين ويحققون من ذلك مكاسب خيالية، وطالب بدعم ورعاية تلك الصناعة وليكن بإنشاء جمعية تهتم بها وتقننها، كذلك تخفيض أسعار الكيماويات والبوتاس حتي لا يأتي اليوم الذي تنقرض فيه ولا يصبح لها وجود.