لو أردت تشبيهًا مختلفًا، لقلت لك علي الفور بعد مشاهدة فيلم «Remember me» الذي عرض تجاريا في الصالات المصرية تحت عنوان «اذكريني» أن هذا العمل من فصيلة الزواحف. انه يزحف ويبطئ في سرده ويعيد ويزيد ويلف ويدور وفجأة يلدغك اللدغة القاتلة فتندهش من هذا التشوش ومن تلك النهاية! فيلم يقول كلامًا كبيرًا دون أن تسانده درامًا قوية، وعمل يبذل مجهودًا هائلاً لكي تفهم ما يريد أن يقول، البطل ثائر ومكتئب يبحث عن قضيته، والصدفة المفتعلة تحدد مسارًا لأحداث، والممثلون عاديون جدًا باستثناء واحد أو اثنين، كل شيء تقليدي مع محاولة ادعاء للفسلفة، فيلم يوجد فيه منتحر وامرأة تموت بالرصاص أمام طفلتها وينتهي بفاجعة 11 سبتمبر الشهيرة الموافق يوم الثلاثاء من عام 2001! اصارحكم انني استغرقت وقتًا طويلاً بعد مشاهدة الفيلم محاولاً أن أفهم مغزاه، ومع ذلك لم استرح لما فهمت ولا لما نقلته الدراما المشوشة التي يمثل بطلنا «تايلور هوكنز» الذي لعب «روبرت باتنسون» محورها وعمودها الفقري. خلال المشاهدة ستظن أن الفيلم عن شاب لديه مشكلة نفسية إثر انتحار شقيقه الأكبر «مايكل» بعد قليل سندخل في مسألة صراعه مع ضابط شرطة ضربه وقبض عليه، ومن ذلك نتحوّل إلي حكاية غرامه بابنة الضابط التي تبدأ بمحاولة الانتقام من الأب ثم تتحول إلي حب مثل عشرات الأفلام التي لابد أن تتذكر واحدًا منها. وفي مرحلة أخري من الأحداث سيبدو أن موضوع الفيلم سوء التفاهم بين جيل الأباء وجيل الأبناء خاصة أن محبوبة «تايلور» لديها «أيضا مشكلة مع والدها». ومنذ البداية تطاردك عبارة يرددها تايلور عن «غاندي» تقول: كل ما يفعله الإنسان بهذه الكلمات: «لأنه وحده الذي يستطيع فعل ذلك لو توهمت أن هناك بعدًا فلسفيًا يناقش فكرة تحوّل انسان من العدميَّة أو اللامبالاة إلي الاهتمام، من الاحساس بتفاهة كل شيء إلي الاصرار مع ذلك علي أن يكون ايجابيًا، لو توهمت هذا فانت مخطئ لأن الدراما التي شاهدناها أضعف من أن تقول ذلك، ولن تفهم بالضبط ما هو الشيء الذي فعله تايلور سوي الغضب والثورة والضرب والعنف وتكسير الزجاج، وفي كل مرة يتصلون بوالده رجل الأعمال لكي يبعث إليه بمحام يدفع الكفالة وينقذه من السجن! شخصية «تايلور» متمردة، دون أن يساندها منطق أو معني، هو طالب يعيش مع صديقه ايدن له ايضا اخت صغيرة موهوبة في الرسم اسمها كارولين امه متزوجة من شخص آخر وشقيقه الراحل مايكل انتحر في سن الثانية والعشرين، ويحاول تايلور أن يلقي باللوم علي والده رجل الأعمال تشارلز» (بيرس بروسنان) لمجرد أن مايكل كان يعمل معه، وحتي نهاية الفيلم لن تفهم ابدًا لماذا انتحر هذا الأخ، وكأنه تخلّص من حياته لكي يتحول تايلور إلي ثائر ومكتئب، وسنكتشف في النهاية أن الأب الذي يبدو صارما ليس بهذه القسوة، وانه يحب ابنه الراحل والمتمرد وابنته الصغيرة الموهوبة، أي أن «تايلور» كان مزودها لأن السيناريست يحاول أن يبحث له عن قضية، الأب يقول له عن حق: أنت لست أول شخص يفقد انساًنا يحبه، والأبن من ناحيته يمسك له علي الواحدة، بل ويحمله فكرة راسخة عن كارولين الصغيرة بأن والدها لا يحبها. الشخصية المقابلة هي «آلي» (إيميلي دي رافين) التي لديها حكاية أعجب، فقد قتلت والدتها امام عينيها علي رصيف مترو الانفاق في بروكلين عام 1991، شابان اختطفا شنطتها ثم قتلاها، أما والدها نيل فهو ضابط شرطة ستتهمه الابنة بعد سنوات بأنه لم يستطع حماية والدتها، وبالطبع لن تفهم ابدا كيف يستطيع رجل شرطة في عمله أن يحمي زوجته من القتل تحت الأرض في مترو الأنفاق، ولكن مؤلف الفيلم «ويل فيترس» يريد مشكلة بينهما والسلام لكي تترك للأب المنزل وتعيش مع «تايلور». ورغم أن الأخير «عدمي» كما يصفه صديقه «إيدن»، ولا تفرق معه الأشياء، فإنه سيوافق علي اقتراح الصديق بأن ينتقم من والد «آلي» بالتعرف عليها ثم تجريسها أو فضحها أو شيء من قبيل هذا علي طريقة الأفلام العربية، وهكذا سندخل في حكاية حب «تايلور» و«آلي» التي بدأت بالانتقام وانتهت بالغرام. المؤلف سيلجأ إلي مصادفات لا حصر لها «تايلور» مثلاً سيدخل معركة لا علاقة له بها في الشارع بمجرد أن أحد المتشاجرين اسمه «مايكل»، وبالصدفة سيتولي القبض علي المتشاجرين الضابط «نيل» وبالصدفة ستكون «آلي» زميلة «تايلور» في الكليَّة، وللمفارقة سيضرب «نيل» «تايلور» رغم أنه ليس أساسيًا في المشاجرة، وللمصادفة سيكون «تايلور» في مكتب والده في مركز التجارة العالمي في نفس اللحظة التي حدث فيها اصطدام الطائرة بالبرجين، أشياء كثيرة واضحة تؤكد أن مؤلف الفيلم لا يمتلك حلولاً كثيرة، كما أنه لا يستطيع ترجمة أفكاره بصورة درامية قوية ومتماسكة، بالإضافة إلي أن لديه أبعادًا كثيرة أصابته «باللخبطة» فتاه وتوّهنا معه من البلد الاجتماعي والنفسي والفلسفي، وبذلك أصبح الفيلم مثل سفينة تتأرجح وسط أمواج عالية تدفع بها في كل الاتجاهات. حتي قصة الحب بين «تايلور» و«آلي» ستكون تقليدية تمامًا لدرجة أنه يحصل لها علي «دبدوب» بعد أن نجح في «التنشين» لإدخال كرة في سلة حديديَّة، الفتاة نفسها لا تعرف أيضًا لماذا هي رافضة لوالدها الذي يهتم بها، ويخاف عليها، وهو خوف مبرَّر تمامًا لأب فقد زوجته في حادث قتل وسرقة، هناك افتعال واضح في معظم العلاقات باستثناء علاقة واحدة هي أفضل وأجمل ما في الحكاية كلها، أنها علاقة «تايلور» بأخته الصغيرة الموهوبة «كارولين» والمدهش فعلاً أن الطفلة التي لعبت الدور كانت أكثر حضورًا ووصولاً إلي القلب من أبطال الفيلم. ولكن هذه العلاقة لم يدعمها مع الأسف الإقناع بأسباب كراهية «تايلور» للأب ولذلك بدأ الأمر أحيانا كما لو أن تايلور يريد أن تثبت «كارولين» أن والدها مقصِّر معها لكي يدينه في كل مناسبة، ومن ناحية أخري بدا دور الأم هامشيًا وغير مؤثر علي الإطلاق، وكان عجيبًا أن يكون «تايلور» أكثر حزنًا من أمه علي شقيقه «مايكل»، بل أراد له المؤلف أن يكون أكثر رعاية ل«كارولين» من أمها! اختلطت الأفكار وتعقدت الخيوط «آلي» ستكتشف أن «تايلور» تقرب منها للانتقام من والدها فتعود إلي المنزل ببساطة، كارولين ستعاني من أزمة نفسية فتعود «آلي» لزيارتها بمجرد أن ترجع من جديد إلي «تايلور» الأب سيعود لرعاية ابنته والخروج معها، الابن سيذهب لانتظاره في مركز التجارة العالمي فتدمره الفاجعة المأساوية، وما هو المعني في كل ما حدث؟ مجرد كلام كبير عن تفاهة حياتنا من خلال عبارة يراودني شك كبير في أن يكون «غاندي» قائلها، سأفترض أنه قالها فما علاقتها بهذا الشاب الذي انتحر شقيقه فأعلن الحرب علي والده؟ ما الذي تغير أصلاً في «تايلور» الذي لا يمكن أن يثير أي قدر من التعاطف وهو يثرثر طوال الوقت ويشرب السجائر والبيرة وينتقل من سجن إلي آخر؟ ما هو الشيء الإيجابي الوحيد الذي فعله في حياته؟ حتي علاقته ب«آلي» كانت اقتراحا من صديقه كانتقام طفولي! اختارت المخرجة «آلين كوليتر» إيقاعًا زاحفًا حتي نتأمل، فلما تأملنا لم نجد شيئًا، المدهش حقًا أن العبارة التي تقول أن ما نفعله أمر تافه ولكن علينا أن نفعله لا تنطبق علي أي شيء في الفيلم، ولكنها ربما تنطبق أكثر علي الذين يصنعون أشياء مثل تلك الأفلام المتواضعة!