باب الشعرية، الحي الشعبي العريق العتيق، شهد ميلاد يعقوب صنوع، أحد العلامات الشامخة التي لا تُنسي في تاريخ المسرح المصري في الخامس عشر من أبريل سنة 1839. مصري يهودي، تفتحت عيناه علي مسجد الشعراني، ولم ينس أن إمام المسجد قد دعا له حتي لا يخطفه الموت المبكر كما فعل مع إخوته السابقين. ولأنها مصر المتسامحة التي لا تعرف التعصب والتمييز الديني بين أبنائها، ولأن موهبة يعقوب قد فرضت نفسها مبكرًا، فقد حظي بما يستحقه من الرعاية والاهتمام، وسافر في بعثة دراسية إلي إيطاليا، مولها واحد من أحفاد محمد علي، الأمير أحمد يكن. عاد المصري اليهودي المثقف الفنان ليعمل في التدريس الخاص، ويستثمر معرفته الواسعة باللغات في تثقيف ذاتي ارتقي به إلي قمة لا تُضاهي بمقاييس النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإذا به يقتحم ساحة جديدة فيسهم بجهده وفكره في تأسيس دعائم المسرح والصحافة، ولم يقل أحد يومها أنها مؤامرة يهودية، وغزوة أجنبية، وثقافة وافدة، وحبائل شيطانية. تحفل سيرة يعقوب صنوع بالكثير الذي يثير الاختلاف، فقد اقتحم حقول السياسة المملوءة بالألغام والمهاترات، الحسم متروك، إذا كان ممكنا، للباحثين والدارسين والمؤرخين، أما الجدير بالاهتمام فيتمثل في حقيقة ساطعة تعود إلي ما قبل قرن ونصف القرن: تعايش وإخاء وتعاون بين أبناء الديانات المختلفة، أولئك الذين يجمعهم الانتماء الوطني تحت الراية المصرية، حيث الحضارة والشموخ. علي كثرة المعارك التي خاضها يعقوب صنوع، ومع وفرة الاتهامات التي طالته، مثله في ذلك مثل كثير من المشتغلين بالعمل العام، فإن أحدا من كارهيه ومناوئيه لم يتطرق يومًا إلي ديانته، فالعقيدة الدينية ليست موضعا للمعايرة والتنابز، أو أداة للتناحر الرخيص في ساحات لا شأن لها بالدين. درس نحتاج إلي استيعابه دائمًا: مصر للمصريين، والدين لله والوطن للجميع، والأرض كالسماء تتسع لأتباع الديانات جميعًا.