يعتقد الكثيرون وبخاصة من خارج الدوائر الأكاديمية أن هموم التدريس بالجامعة هي هموم اقتصادية بالدرجة الأولي، وأن التمويل الكافي سيحل اكثر من نصف مشاكل أساتذة الجامعة، ويضيف آخرون مشكلة المستوي الدراسي والبحثي المتدني وإن كانوا يعزون ذلك أيضا بقدر كبير إلي التمويل.. ويظنون أن هموم الأستاذ الجامعي ستنتهي إذا توافرت العدالة بشكل عام، ولكن هناك هموما تدريسية قاسية صرت أواجهها أكثر من ذي قبل هذه الأيام. الهم الأكبر صار بالنسبة لي شخصيا أن تصل المعلومات إلي ذهن الطلاب والطالبات! قد يتعجب البعض من هذا، وأنا نفسي أتعجب من هذا التحدي الغريب الذي يناقض خبراتنا السابقة مع العملية التعليمية الجامعية.. ولكنها الحقيقة التي وجدت التأكيد عليها عند بعض الزملاء عندما كنا نتحدث في الدقائق القليلة بين المحاضرات. ويعتقد كثيرون من الأساتذة المهتمين ببناء عقول الطلاب أن التحدي الحقيقي بالنسبة لنا والهم الأكبر الذي يشغلنا كأساتذة هو كيفية توصيل المعلومات إلي عقول هؤلاء. أتذكر في بداية تعييني كمعيدة بالكلية أنني كنت أستعد بكل الوسائل المتاحة لدخول المحاضرة ولأسئلة الطلاب، وكان التحدي الأكبر هو ملاحقة هذا وذاك والإجابة عن سؤال هذ الطالب، وإبهار تلك الطالبة بمعلومات لا تعرفها، والتمكن من إدارة المحاضرة بكفاءة.. أما اليوم فالطلاب لا يسألون، ولا يطلبون مع اننا ما زلنا ندعوهم طلابا ولا يقبلون علي أي نوع من المعرفة. والذي يؤلم النفس حقا هو أن نسبة من لا يفكرون من الطلاب قد ازدادت بشكل ملحوظ، وأن نسبة من لا يبالون قد تعدت المعدلات المقبولة بالرغم من أن مجموع الثانوية العامة لكل هؤلاء يدل علي أنهم من المتفوقين!! ولا ألوم هؤلاء الطلاب بقدر ما أشفق عليهم، ولا أعاتبهم بقدر ما أحاول أن أساعدهم. وهذا ما يجعل من التدريس لهم هما حقيقيا.. فنصبح مثل صناع السينما الذين يسألون أنفسهم: هل نصنع فيلما علي ذوق غالبية الجمهور؟ أم نصنع فيلما يسمو بأذواق المشاهدين؟ هل نقوم بتدريس قشور سطحية؟ هل نضع ملخصات ونقوم بتعليب المعلومات وتعبئتها في عبوات صغيرة كبرطمانات طعام الأطفال، ثم نرسلها (Delivery) إلي عقول الطلاب؟ هذا هو ما اعتادوه وما جهزت معدة كل منهم لهضمه.. هل ننسي الولائم المتخمة بطعام الكبار من مكتبات ودراسات وكتب ومراجع أصيلة وموسوعات ثقيلة ترهق معدة الأذكياء وتتحدي عقول النابغين؟ هل ندفن أحلامنا بشأن تغذية طلابنا بما لذ وطاب مما نود أن نعطيه لهم وهم لا يمدون أيديهم ليأخذوه؟ إن هذه الأوضاع المقلوبة تشعر المدرس الجامعي بالإحباط! فكل آماله بشأن بناء العقول والتنوير وخلق الفكر الناقد والعقل المبدع وشحذ همة الشباب في تطوير أنفسهم وتنمية قدراتهم والسعي لتشكيل شخصياتهم المتميزة كل علي حدة، وغير ذلك من الأحلام الطموحة التي يتمناها الأستاذ الجامعي تنتهي بدرجة كبيرة من الفشل، ويبقي شبح يطارده متسائلا: هل نجحت فيما يجب عليك عمله؟!