اضطهاد المرأة، وثقافة الاتباع، وخطاب العنف، والعداء للآخر، ومخاطر الدولة الدينية هي موضوعات رئيسية يواجه فيها الدكتور جابر عصفور ما اسماه ب(ثقافة التخلف) في كتابه (نقد ثقافة التخلف). والكتاب الذي يقع في أكثر من 500 صفحة وتم نشره ضمن سلسلة الفكر التي تصدرها مكتبة الأسرة، هو كتاب قيم ويستحق لا مجرد القراءة بل التأمل والتحليل لكثير مما جاء به من أفكار جريئة ومستنيرة. والكتاب عبارة عن مجموعة كبيرة من المقالات التي قام الدكتور جابر بنشرها من قبل في صحف متعددة في العقدين الأخيرين. وكما يذكر الكاتب في مقدمة الكتاب أن همه الأول كان دائما (قضايا التخلف والتقدم) ولذا ترتبط كتاباته بوجه عام بتلك القضايا. وهذا ما جعل الكاتب ينفتح علي مجال النقد الثقافي العام وهو الذي كان في البداية ينهج منهج النقد الأدبي الخالص. ولكننا في هذا العصر نحتاج إلي الناقد الثقافي الذي يتناول الإنسان بشكل أعم أكثر ما نتفاعل مع الناقد الذي يتناول الأدب وحده. لذا أعتقد أن تحول الدكتور عصفور ليس استبدالا لجهد في النقد الأدبي، ولا تحولا من المذهبية النقدية، بل هو انفتاح وانطلاقة تنوير ضرورية جدا جدا. وأشد ما يميز الكتاب هو الجرأة التي تم عرض الموضوعات بها. ولا أقصد بالجرأة هنا سوي الصراحة والوضوح في تعرية الحقائق من ناحية وطرح الآراء الخاصة بالمؤلف من ناحية أخري. وتبدأ الجرأة من عنوان الكتاب وتسمية تلك الثقافة الرجعية بمسمي ثقافة التخلف. ويذكر الدكتور عصفور رأيه داخل الكتاب في عدة مرات منها مثلا قوله: (وأخيرا، فإني لا أزال أؤمن أن الغالب علي تراثنا هو قيم التخلف لا التقدم). كما يقوم بتوضيح بعض الآراء السلفية التي تقمع المرأة في عدة أبواب تناقش اضطهاد الأنثي. ومن أروع أجزاء الكتاب أيضا (العداء للآخر) الذي يقوم الكاتب فيه بتناول الأصول التاريخية والثقافية لهذا العداء وامتداده ليتخطي الآخر الأجنبي ويصل للآخر المحلي، ويناقش فيه أيضا الاستغناء عن الآخر ومفاهيم الاستعلاء والاكتفاء الذاتي والاحساس بالرقي والتميز علي الآخر، ثم يوضح امتداد هذا الفكر إلي حيز التطبيق في قمع كل ما هو مختلف وفي تكفير علوم الآخر، وأخيرا يركز علي الاتجاهات المستنيرة التي رفضت تلك الثقافة المتخلفة وأخذت بالعلوم العقلانية وشجعتها في التراث. وفي الكتاب مقولات مؤثرة وجمل راقية وتماثل رائع في سمو اللفظ والمعني علي حد سواء. مما يوضح للقارئ أن الدكتور جابر ليس مجرد ناقد أدبي أو ناقد ثقافي علي حد تعبيره بقدر ما هو مفكر وأديب يمتلك من أدوات التعبير ما يوازي ذلك الفكر المتميز والوضوح والجرأة والاستنارة. ومن أمثلة ذلك: (وللمرأة مكانة مقموعة إلي أبعد حد في بناء التراتب الذي يعاديها، ويستريب بها، فيجعلها حليفة الشيطان، ومصدر الفتن...) وأيضا: (والتعصب للقديم نقيض التسامح مع الجديد في حركة الوعي الجمعي لثقافة التخلف). إنه كتاب أكثر من رائع بكل ما يحمله من ثقافة تقدمية وآراء عصرية ومتابعة تحليلية نقدية دقيقة وجريئة للتراث. ويمثل جوهرة في مكتبة كل من يقتنيه.