تتميز كتابات د .جابر عصفور بالاستنارة العقلية،فهي بمثابة سلاح موجه ضد جميع قوي الجهل والتخلف،ومن أحدث كتاباته كتاب "نقد ثقافة التخلف» ونراه يؤكد في مؤلفه هذا علي حقيقة يصرحها في المقدمة إذ يقول "منذ سنوات بعيدة،وأنا مهموم بقضايا التخلف والتقدم،خصوصا في المجالات الثقافية التي لا تزال تشغلني أكثر من غيرها،ولذلك كان اهتمامي بثقافة الاستنارة والعقلانية والحرية الفكرية والإبداعية، والتسامح لا التعصب،والاحتفاء بالقيمة التي تؤكد آفاق التقدم الواعدة،هو الدافع إلي تأليف كتب من مثل "هوامش علي دفتر التنوير" - 1993،وأنوار العقل" - 1996،وآفاق العصر" -1997،أوراق ثقافية- 2003، و"مواجهة الإرهاب" -2003،والاحتفاء بالقيمة" - 2004 .ولقد تم تجميع المقالات علي عدة محاور،المحور الأول بعنوان"أصول تراثية " ويحتوي عدة مقالات حول "اضطهاد الأنثي" و"ثقافة الاتباع "و "التهوس بالماضي" والعداء للآخر " المحور الثاني بعنوان "خطاب العنف" ويتناول فيه قضايا "حرية التعبير" و"العداء للفنون"و "فتوي صادمة " وجاء المحور الأخير بعنوان "الإسلام دين ودولة" ويتناول فيه مخاطر الدولة الدينية. المجتمعات المعادية للتغيير وفي هذا العرض سوف نعرض لبعض هذه المقالات التي تظهر فكره المستنير وذلك بقدر ما تتيحه المساحة المتاحة من العرض، ففي مدخل الكتاب يؤكد المؤلف أن ثقافة التخلف تقترن بالمجتمعات الساكنة، الثابتة، المعادية للتغيير، والخاصية الأولي لهذه الثقافة أنها تنكفيء علي ماض متخيل،لا تكف عن استعادته محاكاة وتقليدا واتباعا، وتبالغ في تقديسه بما يجعل منه إطارا مرجعيا في كل شيء قائم وكل شيء قادم،فالماضي هو نقطة البدء،والمستقبل يظل غامضا، لا تفكير فيه إلا بمنطق ما سبق وقياسا عليه، ومكانة المرأة في المجتمعات المتخلفة مقموعة إلي أبعد حد،فهو يجعلها حليفة الشيطان،ومصدر الفتن،ولا يري فيها سوي جسد يغوي وفريسة لابد من ترويضها وقمعها بأشد أنواع المراقبة والعقاب، وخير نموذج يشرح ذلك الأمر هو حركة طالبان في أفغانستان التي فعلت بالمرأة ما فعلت فنقبوها وحرموها حتي من حق التعليم، معطلين بذلك نصف المجتمع الذي لا يمكن أن يتقدم المجتمع إلا به، بل لا يقاس أي تقدم أي مجتمع إلا بالمكانة التي تمنحها للمرأة،والخاصية الثالثة التي تميز ثقافة التخلف هي العنف والاستيلاء علي السلطة بالقوة التي تظل حامية للدولة،ويسود فيها الانتخابات الصورية التي لا معني لها، ولا تعرف الدساتير ٍبمعناها الحديث،ويترتب عليها تجميد الحقوق المدنية وإلغاء الحقوق الإنسانية،وعدم الاعتراف العملي بالمواثيق الدولية التي تهدف إلي تأكيد هذه الحقوق وصيانتها . والخاصية الرابعة التي تتميز بها ثقافة التخلف هي إقحام الدين في كل شيء سواء في نظم الحكم أو في العلوم أو الفنون أو الآداب ، و في مقال بعنوان "الفضل للمتقدم" يهاجم الكاتب هذه الظاهرة " تديين كل شيء" ،ويري ان هذه الظاهرة أقترنت بها مجموعة من المباديء القمعية نذكر منها :- 1-غير مسموح بظهور أي علم إلا علي سند واضح وصريح من الدين؛بعيدا عن أي احتمال مفتوح لإمكان استقلال العلم بموضوعه ومنهجه 2-محاولة وضع العلوم في ترتيب معين يضع فيه العلوم الربانية في المقدمة والعلوم الإنسانية في المؤخرة، الأمر الذي يعد بمثابة قيد صارم علي حركة العلوم المدنية،وعلي حرية الآداب والفنون 3-العداء للنزعات العقلية والتجريبية التي يمكن أن تقوم عليها العلوم المدنية وتقوي بها الآداب والفنون 4-العداء للجديد في أي علم،أو إبداع خصوصا ما يهدد منها الأنساق الثابتة والتقاليد الجامدة 5-وصل العداء للجديد في العلم إلي حد العداء للعقل بوجه عام، وانتقل هذا العداء للخيال أيضا فأنزله منزلة "الهلوسة"، فيغدو كل من العقل والخيال في دائرة النبذ التي لم يكف عنها أصحاب النزعة الماضوية "أي رد كل شيء إلي الماضي وحده " 6- تأويل النصوص الدينية بما يهدف إلي تقييد حركة العقل والخيال معا،وبذلك أصبح حق الاختلاف قرين المعصية الفكرية والضلالة الدينية التي تؤدي إلي الهلاك، وأصبح شعار "من تمنطق قد تزندق" هو السائد. تكفير علوم الآخر وفي مقال آخر بعنوان "تكفير علوم الآخر " وفيه يؤصل المؤلف لظاهرة العداء للعقل والفلسفة،فيستشهد بنص لأحد الفقهاء يدعي ابن الصلاح (توفي عام 634 ه ) قال فيه "الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال،ومثار الزيغ والزندقة،ومن تفلسف عميت عينه عن محاسن الشريعة المطهرة، المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة . ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان ..... وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر .وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا أستباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالح وسائر من يقتدي به من أعلام الأمة وسادتها .وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة، والرقاعات المستحدثة ...... ومن زعم أنه يشتغل بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها،فقد خدعه الشيطان ومكر به .فالواجب علي السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المياشيم (الذين يخلطون الحق بالباطل)، ويخرجهم من المدارس ويبعدهم،ويعاقب علي الاشتغال بفنهم ." وكان من نتيجة مثل تلك التعاليم أن تأسست تقاليد راسخة لقمع حرية التفكير لا تزال قائمة للأسف علي امتداد عالمنا العربي الذي هو عالم قمع الآخر وتكفير المختلف . وفي نفس السياق يوجد مقال بعنوان "أين حرية التعبير؟ " بدأه المؤلف بعبارة شهيرة للكاتب الراحل الكبير يوسف أدريس (1927- 1991 ) قال فيها "إن كل حرية التعبير المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتبا واحدا لممارسة إبداعه بشكل كامل، بعيدا عن القيود المتعددة التي يفرضها علي الكتابة الاستبداد السياسي والتصلب الفكري والجمود الاجتماعي والتعصب الديني " وقد مضي علي عبارة يوسف أدريس ما يزيد عن عشرين عاما،وقد تزايد القمع الفكري والمصادرة السياسية، فلقد صدر حكم بالتفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجته بعد سنوات قليلة من وفاة يوسف أدريس، وبالتحديد في 14 يونية 1995، وقبلها تعرض الكاتب الراحل الكبير الاستاذ نجيب محفوظ (1911- 2006 ) لمحاولة اغتيال فاشلة في 14 اكتوبر 1994، وأمتدت دعاوي التكفير إلي الجرائد والمجلات مثل دعوي "الحسبة" المرفوعة ضد مجلة روز اليوسف،ودعوي أخري ضد أستاذ الفلسفة المعروف الدكتور عاطف العراقي بتهمة الخروج عن صحيح الدين،،ورفعت دعوي حسبة أخري ضد الشاعر الكبير الأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي،ودعوي تكفير ضد الدكتور حسن حنفي في يونية 1997، وفي نفس الفترة تم تقديم كتاب الدكتور سيد القمني "رب الزمان" إلي محكمة شمال القاهرة الابتدائية فحكم القاضي بتبرئة الكاتب في سبتمبر 1997 . ويذكر المؤلف هذه العبارة القوية التي كتبها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (1889- 1973 ) في كتابه الرائد "مستقبل الثقافة في مصر "إذ يقول "الأدباء عندنا ليسوا أحرارا بالقياس إلي الدولة ولا بالقياس إلي القراء . وما أكبر النبوغ الذي يضيع ويذهب هدرا لأنه يكظم نفسه، ويكرهها علي الإعراض عن الإنتاج خوفا من الدولة،أو خوفا من القراء،فليس كل موضوع يعرض للأديب عندنا تسيغه القوانين ويحتمله النظام ويرضي عنه ذوق الجمهور" وفي سلسلة أخري من المقالات تناول المؤلف قضية وضع المرأة في العالم العربي، فلا يزال نظرة الرجل الشرقي إلي المرأة انهن ناقصات عقل ودين، وانتشرت العديد من الأقاويل التي تؤكد علي تسفيه النساء مثل " شاوروهن وخالفوهن "و"النساء شر كلهن" و"لاتثق بامرأة" و"من أطاع عرسه فقد أضاع نفسه " و"ذل من أسند أمره إلي امرأة " و"لا تطلعوا النساء علي حال ولاتأمنوهن علي مال " ومن الطبيعي في ظل ذلك الكم الهائل من التراث الثقافي المتدني لنظرة الرجل الشرقي للمرأة، أن يستنكر الوعي الذكوري العام، ولو علي المستوي اللاشعوري،ترقي المرأة ووصولها إلي أعلي المناصب وذلك جنبا إلي جنب القيود الاجتماعية المفروضة علي إبداع المرأة وإنتاجها الفكري في معظم البلدان العربية، ولذلك فأن نسبة المبدعات من النساء أو المشتغلات بالفكر أقل بكثير من نسبة الرجال ،كذلك فأن العديد من الأنظمة التعليمية في بلادنا مازالت تكرس التمييز بين الرجل والمرأة،وتؤكدها الموروثات التقليدية الجامدة،لذلك تحتاج مناهج التعليم عندنا إلي تطوير جذري علي كل المستويات،والظاهرة الملحوظة كذلك في المجتمعات العربية هي أن مشاركة المرأة في النشاط الثقافي العام أقل بكثير من مشاركة الرجل بسبب النظرة السائدة إلي تدني دور المرأة،سواء من ناحية الأفكار التي تلقي عليها وحدها أعباء العمل المنزلي وتربية الأبناء حتي ولو كانت أمرأة عاملة، أو منظور أفكار التطرف الديني التي تنظر للمرأة أنها عورة ولا تري فيها سوي جسد يثير الفتنة ويهيج الغريزة .