علامات استفهام كبيرة باتت تذيل جملة الدكتور محمد البرادعي وجمعيته المزعومة للتغيير، وهي الجملة غير المفيدة في سياق المشهد السياسي المصري ذلك أنها منقوصة وغير تامة لما تنطوي عليه من تناقضات فجة وعميقة بين مفرداتها وكذلك بين أعضائها وعناصرها، الذين التفوا حول ما يدعيه الدكتور البرادعي من مطالب للتغيير، بل والانقلاب، فيما كل مفردة منها تحمل لونا سياسيا مختلفًا عن الأخري فمنهم من يدعي الليبرالية أو اليسارية، ومنهم الإسلامي والقومي وهو ما يعني أن مطلب التغيير وبالأحري طلب الانقلاب لا يعرف أحد منهم نتيجته وإلي أي شيء سيفضي. ذات الاشكالية واجهت من قبل جميع الحركات الاحتجاجية ككفاية وجبهة الدكتور عزيز صدقي قبل وفاته وغيرهما ليس ذلك هو التناقض الوحيد في جمعية البرادعي فالرجل نفسه يحمل قيما ليبرالية هي في أغلبها انعكاس لمنظومة القيم الغربية التي عايشها طوال نحو ثلاثة عقود مضت، أي أنها وبالضرورة تختلف جذريا ومنظومة القيم الليبرالية التي تعبر عن الحالة المصرية. علامة الاستفهام الأولي تشير إلي أن مشجعي نادي البرادعي لم يستفيدوا بالخبرة السياسية التي عايشوها في كنف الحركات الاحتجاجية المقبورة، وهو ما يعني من ناحية فشل تلك الحركات في عمل تراكم سياسي، ومن ناحية أخري عجز أعضائها عن إدراك التراكم كقيمة رغم أن من بينهم أساتذة في علوم السياسة. علامة الاستفهام الثانية تذهب مباشرة إلي السؤال عن سر تكرار نفس مشوار الفشل بالاحجام عن مناقشة من أرادوه مخلصا ومنقذا وربما فرعونا جديدا في رؤيته لمستقبل مصر بعد الانقلاب الذي يرتجيه ليقفوا وبوضوح علي مساحة الاختلاف والاتفاق معه، وفي المقابل ولماذا تجاهل الدكتور محمد البرادعي دراسة واقع ما سبقه من حركات احتجاجية، وتقييم أداء العناصر التي التفت حوله ومعظمها قادم من هياكل عظمية لأطر سياسية ولدت وماتت افتراضية ليعرف حجم وقوة من يؤيده، إن تجاهل الاجابة علي علامات الاستفهام تلك يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن جمعية البرادعي تريد قيادة مصر إلي مستقبل مجهول فالبرادعي ومشجعوه يريدون انقلابا علي الدستور والدولة وبفرض أن صار للبرادي ومشجعيه ما يحلمون به فعلي أي دستور جديد سيتفقون؟ فما هو طبيعة النظام السياسي الاقتصادي الذي سيتبناه الفرقاء، وما هو مفهوم المواطنة الجديدة في ظل دعم البرادعي لإنشاء أحزاب دينية وغير ذلك من الملفات الداخلية الساخنة بخلاف ملفات السياسة الخارجية؟ ظني أن الدكتور البرادعي ومشجعيه يتجاهلون عن عمد فتح كل هذه الملفات لإدراكهم الشديد أن واحدًا منها يكفي لوأد جمعيتهم، غير أن الصمت أيضًا يؤدي حتما لنفس النتيجة. وبغض النظر عما اعتقده في أن الدكتور البرادعي يحاول أن يخلق لنفسه مجالا في فضاء السياسة المصرية عبر سيناريوهات الفوضي الخلاقة الأمريكية، فإن العلاقة غير الشرعية التي جمعته مع جملة تناقضات، ونماذج صارخة في الفشل السياسي تؤكد أن الرجل لا يعرف الكثير أو القليل عن حقيقة ما جري في مصر طوال العقود الأربع الماضية. فعلي عكس ما تحاول الصحف الأمريكية، ومعها بعض الصحف الخاصة المصرية ذات الطابع السوداوي ترويجه عن النظام المصري بوصفه فرعونيا عماده الرئيسي حكم الفرد، أدرك النظام السياسي في مصر مع قدوم الرئيس الراحل أنور السادات ضرورة تخليه عن منظومة حكم الفرد والدولة الشمولية التي سادت طوال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وحزم أمره بضرورة تطوير ذاته ليصبح نظامًا ليبراليا يعترف بالتعددية السياسية المؤدية حتمًا لتداول السلطة، وهو ما لا أعتقده أن الدكتور البرادعي يدركه أو أن جمعيته تعمل من أجل تكريسه ذلك أن جمعيته يطرحونه كفرعون بديل لما يقولون أنه نظام فرعوني، وذلك لتسليمه المطلق بقدرة البرادعي المطلقة في تغيير وجه مصر. وبدأت شواهد ذلك التحول بانفتاح السياسة الخارجية المصرية في عهد السادات علي آفاق أوسع وأشمل في مجال العلاقات الدولية وهو الأمر الصعب تحققه في إطار دولة تصر علي طابعها الشمولي. بل إن إقدام الرئيس السادات علي عقد اتفاق سلام مع إسرائيل يعني وببساطة أن الرجل كان يريد مصر دولة مستقرة بعيدة عن احتمالات الحروب متنازلا بخطواته تلك عن تقديم نفسه ككاريزما زعامية جديدة رغم أنه كان يمتلك انتصار أكتوبر وفي الداخل أطلق سياسة الانفتاح الاقتصادي تمهيدًا لتشجيع القطاع الخاص ودمج مصر في منظومة الاقتصاد العالمي وإلي جانب ذلك أطلق المنابر الثلاثة لتعبر عن كل الأطياف السياسية السائدة في مصر آنذاك والتي تطورت لتصبح أحزابًا سياسية. كل هذه الخطوات المعروفة حتمًا للجميع اتخذها النظام السياسي في مصر تمهيدًا لخلق مناخ جديد تتعدد فيه منظومة الحكم في شكل أطر سياسية ومجتمعية مختلفة تنتج وتصوغ تفاعلاتها الإطار العام للنظام السياسي، وهو المناخ الذي تم تكريسه وتدعيمه مع قدوم الرئيس حسني مبارك، حيث تطورت التجربة الحزبية تدريجيا لتنتهي اليوم بوجود أكثر من أربعة وعشرين حزبًا سياسيا معارضًا إلي جانب الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، أيضًا بدأت منظمات المجتمع المدني تنشط في أواسط الثمانينيات حيث ظهرت في تلك الآونة أول منظمة مصرية حقوقية وهي المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، وبدورها تطورت هذه المنظمات الحقوقية ليجاوز عددها الخمسين منظمة تقريبًا وتعمل معظمها في مجال دعم الديمقراطية ومباشرة الحقوق السياسية إلي جانب دورها في مراقبة انتهاكات حقوق الإنسان، إلي ذلك نشطت النقابات المهنية وعجت بالتفاعلات المختلفة التي شكلت مع الأحزاب السياسية الإطار العام للنظام السياسي في مصر. وعلي الصعيد الاقتصادي اتجهت الدولة في عهد الرئيس مبارك إلي المزيد من الإصلاحات بالتشجيع غير المتحفظ للقطاع الخاص والاعتراف بدوره في التنمية الاقتصادية والمجتمعية الشاملة بل وراحت تتخلي أي الدولة وبمحض إرادتها عن امتلاك منظومة الاقتصاد القومي بتطبيقها لبرامج الخصخصة حتي صار إجمالي ما يساهم به القطاع الخاص في الدخل القومي يقترب أو يجاوز معدل الثمانين في المائة. وهو ما يعني بالضرورة التخلي وبمحض الإرادة عن مبدأ احتكار السلطة والاستبداد السياسي، أي أن النظام السياسي في مصر اختار مسار الليبرالية وتداول السلطة، وأفسح الفضاء السياسي المصري للأحزاب السياسية للتعبير عن ذاتها، بل وفتح الباب علي مصراعيه للقوي الليبرالية فمن البديهيات أن تتسع قاعدة المشاركة السياسية الفعّالة باتساع قاعدة المشاركين في الاقتصاد وبعبارة أخري سيسعي رأس المال حتمًا لصياغة تعبيرات سياسية جديدة تعكس مصالحه وتوجهاته. وهو ما حدث فعليا بانضمام ومشاركة بعض رجال الأعمال في تأسيس الأحزاب السياسية ذات التوجه الليبرالي وانضمام غيرهم لعضوية الحزب الوطني الديمقراطي أيضًا انفتحت مصر في عهد الرئيس مبارك في علاقات سياسية متوازنة مع كل الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة واتجهت إلي عقد اتفاقات شراكة اقتصادية في محيطها الإقليمي والدولي. كل ذلك يعني وببساطة أن النظام السياسي في مصر تجاوز مرحلة الاعتراف بالتعددية السياسية وصولاً إلي مرحلة تداول السلطة وعلي القوي السياسية المتفاعلة أن تنشط للوصول فعليا إلي هذه المرحلة وهو ما تم التأسيس له دستوريا عندما أعلن الرئيس مبارك عن تعديل المادة 76 ليصبح الوصول إلي مقعد الرئاسة ولأول مرة عن طريق الانتخاب الحر المباشر وهذا ما يعني بالضرورة أننا لم نعد بصدد الحديث عن نظام فرعوني. بقي أن أشير إلي أن اتجاه النظام السياسي في مصر لمسار الليبرالية ظل يواجه طوال العقود الماضية بعض العراقيل وأغلبها داخلي ألخصها في أن أغلبية المصريين ظلوا متمسكين بالدور المركزي للدولة بدءًا من التعليم ومرورًا بالتوظيف وانتهاءً بالرعاية الصحية والاجتماعية وغيرها. وكان ذلك طبيعيا بسبب الإرث الذي خلفته دولة الستينيات الشمولية. أيضًا ظلت الأحزاب السياسية المعارضة الأكثر ظهورًا وفاعلية هي الأحزاب اليسارية والاشتراكية وفي مقدمتها حزبا التجمع والناصري، وهي الأحزاب التي تعبر عن تيار فشل حتي اليوم في تقديم تصور واضح لدولة تعترف بالليبرالية السياسية، وتحتكر أدوات الاقتصاد في آن واحد. إلي ذلك دأب الناصريون والشيوعيون ومعهم الوفديون يهاجمون الإصلاحات الاقتصادية وتخلي الدولة بمحض إرادتها عن امتلاك كل شيء فقد عارضوا ولايزالون برامج الخصخصة وكان حالهم مع الانفتاح الاقتصادي إبان السبعينيات وكان من المنتظر علي الأقل ممن يدعون الليبرالية الاكتفاء بنقد الطريقة التي تمت بها خصخصة شركات القطاع العام ونقد أساليب تقييم أصولها وليس الوقوف جملة وتفصيلاً ضد مبدأ الخصخصة والاتجاه نحو السوق الحر. هذا الموقف عرقل برنامج الخصخصة في بعض الأوقات لكن أخطر ما نتج عنه هو تكريس فكرة الدولة الشمولية القابضة علي كل شيء في المناخ الثقافي العام، بل إنهم استغلوا الخصومة السياسية مع بعض رجال الأعمال المنتمين للحزب الوطني في تشويه برامج الإصلاح الاقتصادي، وصورة رأس المال الوطني في مصر ولم يفتهم بالطبع مهاجمة زيادة حجم الاستثمار الأجنبي دون منطق يقبله عقل. لم يكن الموقف من برامج الإصلاح الاقتصادي هو الوحيد الذي أضر بشيوع القيم الليبرالية في المجتمع المصري ذلك أن الإخوان المسلمين وما خرج من عباءتهم من تنويعات للإسلام السياسي العنيف قد أشاعوا بأفكارهم وشعاراتهم الدينية المتطرفة قيمًا لا تتفق مع قيم التعددية والتداول ويكفي مبدأ الحاكمية الذي بموجبه يفوض الله مرشد الجماعة حكم مصر هذا بخلاف أفكارهم وتصوراتهم بشأن المرأة والأقباط والتي تتناقض تمامًا مع مفهوم الدولة المدنية الحديثة. هذا بخلاف اختراعهم لما اسموه بنظرية الاقتصاد الإسلامي في مواجهة برامج الإصلاح الاقتصادي، وإشاعتهم قدرًا من الفوضوية في نظرة المواطن للقانون والدستور بالقول أن فتوي الشرعية تجب الدستور والقانون وذهبوا يفتون بحرمانية أشياء أجازها الدستور والقانون علاوة علي ذلك انشغلت تلك التيارات وقتًا طويلاً بقضايا الخارج علي حساب القضايا الداخلية. مجمل القول أن مصر دولة غير التي يعرفها الدكتور البرادعي ومشجعوه الفاشلون ومن المستحيل أن يكون تغيير وجهها عبر جمعية تضم نواشذ عن الإطار العام للنظام السياسي المصري.