يأتي هذا المقال في سياق الجدل الدائر - والذي لن يتوقف إلا بزوال أسبابه - حول القرار الذي صدر مؤخراً عن الجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة، ويقضي بحرمان العمل بالمجلس لمن يتقدم له من الفتيات المتفوقات في الدراسة، حتي ولو اجتزن كل الاختبارات المؤهلة لهن للعمل بالمجلس. وقد جاء هذا القرار بأغلبية ساحقة من الجمعية العمومية. أكثر من 85 ٪ من أعضاء الجمعية العمومية من مستشاري مجلس الدولة الموقر، يرفضون تعيين المرأة كقاضية بالمجلس، حتي ولو توافرت فيها كل الشروط، والسبب الوحيد لحرمانها من هذا الحق أنها - وفقط "امرأة"!!، أما مبررات حرمانها كامرأة، فلقد جاءت علي لسان بعض قيادات مجلس الدولة، وكبار القضاة، وتتلخص في "إن رفض الجمعية العمومية لا يقلل من مكانة المرأة، واحترام الجمعية العمومية لدورها في المجتمع، ولكن رأفة بها، واشفاقاً عليها من العمل الشاق للقضاء".. وأضاف قضاة ومستشارون آخرون كتبرير لحرمان المرأة من العمل كقاضية بمجلس الدولة "إن الظروف الحالية غير مواتية لأن تصبح المرأة قاضية". هذه هي خلاصة القرار ومبررات إصداره - كما نشرت الصحف ووسائل الإعلام- وفور إصداره ونشره توالت ردود الأفعال من قبل عدد كبير من النخب الثقافية والسياسية والإعلامية، ومن بعض علماء الدين، كما حدث رد فعل عنيف داخل أروقة المجالس النيابية.. وحملت بعض ردود الأفعال أوصافاً لهذا القرار علي مثال: القرار الصدمة والكارثي، وأن يوم صدوره يعد يوماً أسود في تاريخ المرأة المصرية، وأن هذا القرار يعد وصمة علي جبين القضاء المصري الشامخ، إلي جانب طرح عشرات المبررات التي تقضي ببطلان هذا القرار، وضرورة الرجوع عنه. علي أي حال، نحاول في هذا المقال، القاء الضوء علي آثار وتداعيات هذا القرار، مع طرح رؤية نقدية لمبررات اتخاذه، والظروف الثقافية والمجتمعية التي دفعت لاتخاذه، معتمدين في الطرح علي العديد من التحليلات وأهل الاختصاص في هذا المجال.. ويتلخص ما نود طرحه في الآتي: أولاً: مبررات قرار حرمان المرأة من العمل كقاضية، فكما نشرت الصحف ووسائل الإعلام - وكما سبق أن أشرنا - تتلخص في أنه من باب الاشفاق علي المرأة والرأفة بها من العمل الشاق للقضاء. إلي جانب أن الظروف غير مواتية. وأضاف بعض المؤيدين لهذا القرار أن تولي المرأة القضاء يعد خروجاً علي التقاليد المرعية. بل وعلي بعض الآراء الفقهية، ولا يتفق ووضع المرأة في الشريعة الإسلامية خاصة فيما يتصل بالمواريث، وقوامة الرجل، إلي جانب أن طبيعة المرأة الجسدية والعاطفية لا تتفق وقدرتها علي شغل هذه الوظائف، ولا بأس من إضافة مبررات أخري من الموروث الشعبي بأن "المرأة ناقصة عقل ودين"، بل ولا يمكن الاعتماد عليها أو إعطاؤها الأمان علي حد المثل الشعبي القائل " لا تآمن للمرأة ولو صلت، وللخيل ولو طلت (أي كانت تحت قيادتك وجادتك) ولا للشمس ولو ولت (أي غابت)" فاحترس من كل هؤلاء. إلي جانب عشرات الأمثال والموروثات الشعبية التي تحط من قيمة المرأة والتي يتم الاعتماد عليها، ويتم تجاهل عشرات الأمثال الأخري التي ترفع من قيمة المرأة وحنانها وحرصها علي زوجها وأولادها، وحول هذه المبررات وغيرها نقول: 1- إنها مبررات غير موضوعية، وليس لها سند من العلم أو الدين أو الواقع، فضلاً عن أنها تحمل تناقضات واضحة، تكشف عن ذاتية طاغية، واتجاهات فكرية وأيديولوجية جامدة، بل وتعمل علي تكريس التخلف. ونتساءل: هل أعمال القضاء تحتاج إلي قوة جسدية لا تتوافر في المرأة؟ وهل هي ستحكم بقوتها البدنية، وبعاطفتها أم بالقوانين؟ وأليس في مثل هذا القول أو المبرر - بقول آخر- ما يشكل إهانة بالغة للهيئات القضائية الأخري التي أفسحت المجال للمرأة للتعيين بها، وقد وصل عددهن - كما نشر - 42 امرأة قاضية؟ وبدلاً من أنه كان يراودنا الأمل بزيادة أعدادهن، بل والعمل في النيابة العامة، نفاجأ بهذا القرار الصادم، الذي يهدد قيم تكافؤ الفرص، والمساواة، والمواطنة؟ ونتساءل أيضاً: متي يأتي الزمن الذي تتوافر فيه الظروف المواتية لأن تعمل المرأة قاضية؟ 2- وهذا يقودنا إلي ما ذهب إليه أهل الاختصاص في التشريع وعلم الدين، حيث يري أصل التشريع: إن هذا القرار يشكل اعتداءً علي الدستور، وبالتحديد في مادته الثانية التي تنص علي "المواطنة" بكل ما تفرضه من حقوق وواجبات دون تمييز وبصرف النظر عن أي اعتبارات أخري غير المواطنة. ولنص المادة الأربعين المتعلقة بالمساواة بين كافة مواطني جمهورية مصر العربية. أما علماء الدين فقد أكدوا أن الإسلام لا يفرق بين الرجل والمرأة، ولا يوجد في الإسلام ما يمنع المرأة المسلمة من تولي مناصب القضاء، بل وصدر حكم أو فتوي منذ 75 عامًا بوضع الشروط الواجب توافرها لمن يعمل بالقضاء ليس فيها شرط "الذكورة" كما يري البعض أن هذا ليس فقط مخالفا للدستور ولصحيح الدين، وإنما أيضًا للاتفاقيات الدولية الموقعة عليها من جانب مصر، والتي تنص علي المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة أو بين البشر بصرف النظر عن أي اعتبارات أخري. ثانيا: فيما يتعلق بالآثار والتداعيات لهذا القرار، بل ولكل الاتجاهات التي تعمل ضد المرأة، وتنظر إليها نظرة دونية، وتنادي بضرورة أن تكتفي المرأة بأعمال المنزل، دون حق العمل، أو المشاركة للرجل في النهوض بالمجتمع، بل ونجد في هذا الزمن الكارثي من يدعو ويفتي بحرمة تعليم المرأة لأن في تعليمها الإفساد، ومدعاة لخروج الفتيات والاختلاط، وهنا نقول: إن مثل هذه الأمور تنال من كرامة المرأة ودورها في المجتمع، بل وتشكل ردة أو ارتدادا لعصور الجمود والتخلف، وتجاهلاً للدور التاريخي للمرأة المصرية، ومن قبل ومن بعد تشكل عدوانًا صارخًا علي مقام ومكانة مصر التاريخ والحضارة. وفي هذا الصدد يكفي أن نشير إلي: 1- إن المرأة المصرية قد أثبتت عبر كل العصور وجودها، فكانت في مصر الفرعونية الامبراطورة المجللة بالعظمة والكبرياء، علي حد تعبير شاعرنا المبدع فاروق جويدة، وتولت قيادة الأمة وهزيمة الأعداء وخير مثال شجرة الدر عندما تولت إمرة الجيش وهزيمة الصليبيين عقب وفاة زوجها، وفي العصر الحديث حدث ولا حرج عن الرائدات والزعيمات والمناضلات ضد الاحتلال، ومن بعد تولي الوزارة، وفي كل المواقع اثبتن كفاءة وتميزا: في الجامعات، ومختلف المؤسسات، بل وعالمة ذرة، وفي أحدث خبر فازت بجائزتين في مؤتمر "المرأة في العلوم" باليونسكو: إحداهما للعالمة رشيقة الريدي الأستاذة بكلية العلوم جامعة القاهرة، والأخري الباحثة الشابة هدير الدخاخني بالمركز القومي للبحوث، وغيرهن في مجال التفوق العلمي كثر. أما عن المبدعات والفنانات والأديبات والمثقفات فتاريخ مصر بهن زاخر ولا يحتاج إلي شهادة أو اعتراف من دعاة الجمود والتخلف. 2-وهذا أمر تؤكده الحقائق والوقائع لأن المرأة هنا هي المصرية التي بنت مصر التاريخ والحضارة، والتي ضربت المثل في المساواة بين مواطنيها رغم أنف كل الحاقدين عليها، الكارهين لها، فمصر المنارة والحضارة، والتي تأسس فيها ولأول مرة وفي عام 1923، أول اتحاد نسائي مصري بفضل المناضلات والرائدات من أمثال هدي شعراوي وسيزا نبراوي ، ونبوية موسي. بل كانت مصر وستظل ملجأ دعاة الحرية والمجاهدين، فكيف تكون الآن - كما ينادي دعاة الجمود والتخلف - مضطهدة لنسائها، وحرمانهن من المشاركة في بناء المجتمع، والمساواة بالرجل؟ خاصة أن الدستور اعترف لهن بكل هذه الحقوق. ثالثًا: من كل ما سبق من مبررات حرمان المرأة من حق العمل بالقضاء، أو وقوعها تحت الاضطهاد، وما يرتكب ضدها من أعمال تشكل امتهاناً لكرامتها، ويحد من كفاءتها، ومن مشاركتها في بناء المجتمع، إنما يكشف عن أن وراء كل هذا اتجاهات وأفكاراً متخلفة مكرسة للجمود والتخلف ومستمدة من ثقافة سائدة، أو علي الأقل يشكل انعكاسًا لثقافة سائدة، منها ما هو بدوي وافد، أو ممن عاشوا وعملوا في بلدان خليجية يهيمن عليها "فقه" السلف الجامد المتحجر الذي يقاوم وبعنف التأويل والاجتهاد وإعمال العقل، ومن الكارثي أن هذا التيار الجامد المتخلف قد اخترق - ومنذ سبعينيات القرن الماضي - الجامعات التي تخرج من يتولون المناصب العليا والحساسة في مختلف المؤسسات ومن خلال هذه الأفكار والاتجاهات يمارسون أعمالهم ومهامهم، التي تتناقض مع فكر وقيم وأخلاقيات الدولة المدنية، إلي جانب ما تعانيه الثقافة السائدة من شيوع الفساد، والظلم وغياب العدل والمساواة بين بني الوطن بالرغم من وجود النصوص الدستورية والقانونية التي تؤكد كل هذه القيم والمبادئ مما يعني أنه ليس بالنصوص الدستورية والقانونية تتحقق المساواة والمواطنة، والعدل الاجتماعي، وإنما بضرورة تغيير الثقافة السائدة، وهذه مسئوليتنا جميعًا. وهنا فليتنافس المتنافسون من أجل مصر التاريخ والحضارة.. وكفي هذا مبررًا.