الأصل ألا يفرط الإنسان في إنسانيته، والأصل أن تختار الجماعة رئيسها، هكذا يفعل أصحاب الحرف، وهكذا تفعل الشعوب والأمم، وعمر البشرية كله تقريبا كان مخفورا بهذا الأصل، رغم ما صاحبه من استبداد وتسلط وظلم، سواء كان الرئيس اشتراكيا أو رأسماليا، لاهوتيا أو علمانيا، تيتو أو عبد الناصر، لذا أصبح الاحتمال الوحيد الذي لم يسبق تجريبه، هو أن يسعي الإنسان إلي ألوهية الإنسان، بل يتم تحديد الرئيس أولا، ثم يقوم هو نفسه باختيار شعبه وجماعته ومريديه وحملة أعلامه وأهل ذمته والخاضعين له، وعكف النشطاء من أهل العلم اللدني علي أبحاثهم، ونظروا إلي الأشجار والطيور والحيوانات والطبقات الدنيا من البشر، وانتهوا إلي إعداد تصوراتهم، واختبروها علي ديك أحمر ومرؤوسيه، ثم علي قرد، ثم علي ذكر جاموس، وأخيرا فكروا في الجماعة البشرية التي تصلح لأن تكون حقل اختبارات، وقع اختيارهم علي جماعة المثقفين لما يسودها من حيرة وارتباك وضغينة ورغبة في استبداد مضمر، ورغبات أخري في استبداد ظاهر، ونزاعات علي البقاء ، ونزاعات علي الفناء، وجدوا أن هذه الجماعات تفوق نظائرها في التمثيل والاستدلال، تفوق حتي جماعات السياسيين، فاعتبروها الجماعات الأصلح للتجريب، وناسبهم توقيت معرض الكتاب، خاصة أن رئيس هيئة الكتاب، واحد من المثقفين المحترفين، بالفاء دون الحروف الأخري، كان النشطاء يفرقون بين المثقف المحترف ونقيضه، ويميزون الأول بميزة كونه الشخص الذي يمتلك بعض مهارات وبعض معارف، يجيد عرضها وتسويقها، إنه غالبا ما يكون أكاديميا، وغالبا ما تكون معارفه متاحة وغير متطلبة للاحتراق بنار المعرفة، وكذلك غالبا ما يكون طموحه محصورا في الارتقاء إلي المناصب العليا لكي يصلح خادما للسلطة علي أمل أن تمنحه السلطة بعض هباتها، أما المثقف النقيض فهو ذلك الذي يعمل في سبيل تحقيق ما يعتقده، دون بيع أو تأجير، النشطاء من أهل العلم اللدني يقررون أن هذا المثقف أصبح عرضة للانقراض والزوال لأسباب بينها قدرة المثقف المحترف علي اغتصاب نقيضه بعد اغتصاب كل شيء، والدكتور صابر عرب رجل فاضل يحظي باحترام غالبية المحترفين من طبقته، يده ناعمة لينة، لم تقبض علي الفحمة الملتهبة، إنها يد تاريخية تستمتع بملامسة كل ما هو لطيف عابر، وهو يعرف الكثير عن المكابدة، مما يتيح له أن يتكلم عنها كأنه يعانيها، وأن يتحاشاها كأنه يداريها، والدكتور صابر تولي المعرض بعد أن تولته رئاسات عابرة، رافقته طوال طفولته، أي طفولة المعرض، وبعد أن تولته رئاسات مقيمة مثل رئاسة المغفور له سمير سرحان، الذي هاجمناه كثيرا لأنه برع في صناعة فوضي الموالد، زحام وضجة وضيوف وميكروفونات، أما الرئيس السابق المرحوم ناصر الأنصاري، فقد هاجمناه أيضا، لأن المعرض في عهده تحول إلي صحراء يسكنها موتي بلا قبور، قال أحدهم: لقد مات المعرض إكلينيكيا أيام الأنصاري، قال الآخر: مات المعرض، وظل جسده مرفوعا علي الأكتاف، ولما أتي صابر عرب، توقعنا أنه سينقذ الميت بدفنه أو بإعادة إحيائه، خاصة أن الرجل لا يصارع أحدا ولا يصارع نفسه من أجل إنجاز علمي متميز، إنه شبه متفرغ، ولكننا فوجئنا بواقعيته التي ظهرت أعمق مما نظن، ومعاصرته التي تشبه واقعيته، فأشرف بنفسه علي تحقيق ألوهية الإنسان، بأن يتم تحديد الرئيس، وبعدها يقوم هو نفسه باختيار شعبه، اتفق صابر عرب مع أعضاء لجانه علي شراء قماش أبيض يكفي لتكفين أكثر من معرضين، ثم قال لهم احفروا حفرة لا قرار لها واجعلوها أسفل الأمسيات الشعرية الرئيسية، لا تفكروا في عدد الأيام التي سوف يستغرقها المعرض، تحرروا من هذا القيد، لابد أن نعود إلي ميتافيزيقا الأعداد، فعدد الأمسيات لابد أن يكون مرقوما بأحد الأرقام المقدسة، والرقم سبعة لا خلاف علي قدسيته، إذن لتكن الأمسيات، سبع أمسيات، بعدها نختار شاعرا رئيسيا لكل أمسية، ثم نترك له حق اختيار رعيته وتابعيه الذين سيلتفون حوله ويمهدون له ويتلقون تعاليمه، يقرأون أمامه ليكونوا حاشيته، ويقرأ أمامهم ليكون سلطانهم، وسوف ننشر إعلاناتنا ونسمي أمسياتنا بأسماء رؤسائها، دون ذكر للتابعين، سيتهمنا البعض بالوقاحة، لا يهم، أمسية أحمد عبد المعطي حجازي، أمسية محمد الشهاوي، أمسية فاروق شوشة، أمسية حسن طلب، أمسية سيد حجاب، أمسية محمد التهامي، أمسية أحمد سويلم، هكذا تكلم صابر عرب، أستطيع الآن أنْ أزهو بأنني صديق لبعض هؤلاء الشعراء الرؤساء، مما يجعلني أكثر حرية وأقل حرجا، نحن نعرف أن كل رئيس من الرؤساء السبعة لا يقبل ولا يجرؤ علي اختيار أحد مجايليه أو منافسيه أو شركائه في الوجود، وفي الفعل الشعري، وفي القيمة، قد تتفاوت حظوظ الحضور والنجومية، ولكنها لا تعكس تفاوتات القيمة، أحمد حجازي لن يختار عفيفي مطر، ولا صلاح عبد الصبور لو كان حيا، فاروق شوشة لا يفكر في صديقه إبراهيم أبو سنة، سيد حجاب سيتفادي ذكر أحمد فؤاد نجم والأبنودي، وأحمد سويلم ستصر ذاكرته علي نسيان نصار عبد الله وأبو دومه، أما محمد التهامي فأمره ميسور لأنه بلا منافس، نظر صابر عرب إلي أعضاء لجانه، وقال لهم: افعلوا الفعل ذاته في أمسيات المكرمين، كل مكرم يختار شخصين أو ثلاثة يتحدثون عنه ويذكرون مناقبه، الدكتور محمد غنيم يختار اثنين أو ثلاثة، الدكتور البرادعي وهو غير برادعي الطاقة الذرية، كذلك الدكتور شريف مختار , المبدأ الجديد هو قيام الرئيس باختيار تابعيه، فيعتدل الاستبداد ويقف علي قدمين، بعد أن ظل طول التاريخ مقلوبا، وقديما قالوا: الاستبداد المعدول خير من الاستبداد المقلوب ولكنهم لم يعرفوا السبيل إليه، انتهي كلام صابر عرب، أول ما يؤلمني في هذه الرواية هو ما كانت تقوله أمي: الجنازة حارة والميت كلب، فالناس انصرفوا عن المعرض، ومسئولو الندوات يقفون أمام الندوات الفارغة ويستجدون المارة التشريف والحضور، ثاني ما يؤلمني أن أمسيات الشعر أيام ازدهارها كانت تحتشد بشعراء مثل نزار قباني والماغوط وأدونيس والبياتي ومحمود درويش وسعدي يوسف والفيتوري وسميح القاسم إلخ إلخ، ولأن الطريق بين أي بلد عربي وبيننا أصبحت طويلة ومكلفة، اكتفينا بالبحث عن أشخاص عرب مجهولين يقيمون بيننا، ويزعمون أنهم يكتبون الشعر، فتحل ريم قيس كبه محل مواطنيها البياتي وسعدي، وتحل سحر سامي محل مواطنيها عفيفي مطر وحلمي سالم، ويغيب محمد سليمان ليحل محله عبد المنعم عواد يوسف، ثالث ما يؤلمني تلك العلاقة، علاقة التلازم بين كل أحمد حجازي وكل تراتبية تصادفنا، منذ تراتبية الشعر الموزون الكامل وقصيدة النثر الناقصة، وتراتبية الصفوة والحرافيش، حتي تراتبية أمسيات الشعر السبع، وأحمد حجازي شاعر كبير غير أنه أحد أعضاء كل لجنة عليا، ولابد أنه وافق علي ما تم، ولابد أنه شارك باقتراحات قد يكون أحدها مشروطا بأن يكون رؤساء الأمسيات من أعضاء لجنة الشعر التي يرأسها أحمد حجازي أيضا، فيما عدا محمد التهامي العمودي الوحيد بين شعراء أعمدتهم قصيرة أو بلا أعمدة، ورابع ما يؤلمني هو قبول الشعراء الرؤساء والمرءوسين لذلك التفريق، خاصة الرؤساء، رغم ضرورة إيمانهم بأن الشعر بهو مفتوح علي المساواة الإنسانية، وعلي الحقوق الواحدة التي يجب أن تنالها هدي حسين وجيهان عمر كما ينالها أحمد حجازي أو احمد سويلم أو أحمد شوقي، كنت أتصور أن الشعراء الرؤساء سيكونون أسرع المعترضين علي هذا التفريق، ولكنني أخطأت مرتين، هذه المرة، ومرة أخري عندما ذهب الشعراء إلي مكتبة الإسكندرية في نشاط نظمته هيئة قصور الثقافة، انقسمت الباصات الكبيرة، الأصح الأتوبيسات التي سوف تقلهم إلي منزلتين، المنزلة الأولي: أتوبيس واحد مخصص للأشخاص المهمين جدا، كان الشماشرجية من موظفي الهيئة ينطقونها هكذا: V . I . P وهو اختصار Very Important Person ? والمنزلة الثانية: ثلاثة أتوبيسات للأشخاص الأقل أهمية، وفور الوصول إلي حدود الإسكندرية، اتجهت السيارة الأولي إلي فندق كتفاه مرصعتان بسبع نجوم، بينما اتجهت بقية السيارات إلي فنادق بنجمتين، منزلتان ولا توجد منزلة بينهما، لم يعترض أحد، كان علي الأشخاص الأكثر أهمية أن يبادروا برفض التفريق، وأن يختاروا أحد أمرين، الاشتراكية أو الفرار، ليعطوا درسا ومثالا علي أن الثقافة بعامة والشعر بخاصة هو بهو مفتوح علي آخره، وليثبتوا أهميتهم الحقة، أما هيئة قصور الثقافة فمعذورة لأنها يمكن أن تحتج بصعوبة تمويل إيواء جميع المدعوين في فنادق فاخرة، حيث يمكن تقليل عدد المدعوين أو إنزالهم جميعا في فنادق ما بين المنزلتين، الهيئة معذورة لأنها يمكن أن تحتج بحقبة السقوط التي نعيشها، عموما ماذا نفعل، المؤسسات الثقافية تسعي إلي إشاعة روح التفريق، والشعراء أنفسهم المتميز منهم يفخر كالطاووس بتميزه، والمنبوذ المحتقر يرضي كالجاموس بالنبذ والاحتقار، وها هو صابر عرب يفلح ويضع جثة المعرض في الهواء الطلق، يحرسها وحيد عبد المجيد وآخرون من دونه، وكلهم يوهموننا بأن المعرض حي لا يموت، رغم أننا نعرف أن ما يعرضه صابر علينا هو مومياء المعرض، كما نعرف أن أمسياته الشعرية هي مومياوات الأمسيات، سمعت أن أحد الشعراء وصف أحد المسئولين بالحانوتي، وسمعت أن صابر عرب غضب وكتم غيظه، فسمي صابر، إلا أننا لا نعرف لماذا سمي عرب، من يعرف نرجوه أن يبلغنا.