كان (ول ديورانت) في كتابه مباهج الفلسفة يتندَّر بهؤلاء العلمنيين الذين يقدسون (العلم) و(العقل) ولا يكاد الفرق بين واحد منهم والآخر يبلغ في تقدير عمر (جمجمة) أو (حجر) بضع ملايين من السنين أو بضع مئات الألوف .. فقد يقول أحدهم بثقة كاملة : إن عمر هذا الحجر مليون سنة، ويقول الآخر : إن هذا الحجر بيننا وبينه من العصور الحجرية الموغلة في القدم أربعة ملايين سنة ... أما الفروق بمئات الألوف من السنين ، فحدِّث ولا حرج عنها ، فهي فروق معقولة جداً، وعلمية جداً، ومقبولة في حقل الجيولوجيا ... جداً؟!! وفي كتابه (الله) يضرب الأستاذ / عباس محمود العقاد مثلاً على تخبط الأقدمين ، من أصحاب العقائد والفلسفات، فيما يتعلق بتقديرهم عمر الكون؛ فإن أناساً من هؤلاء الأقدمين لم يجاوزوا معمر الكون المادي بضعة آلاف من السنوات ، بينما ذهب أناس آخرون إلى أنها لن تبلغ ولم تبلغ من قبل عدة قرون ، ولكن البراهمة في الهند جعلوا للكون أربعة أعمار تساوي اثنتي عشرة ألف سنة إلهية وأربعة ملايين وثلاثمائة وعشرين ألف سنة شمسية ، وبعض المتأخرين يضاعف هذا الرقم ألف ضعف، ويقولون : إنها دورة واحدة من دورات الوجود ، وإن هذه الدورة هي يوم يقظة يقابله ليل هجوع ينقضي بين كل دورة فنيت وأخرى آخذة في الابتداء .. ويستمر التقلب في الزمان على هذا الوضع، في رأي هؤلاء !! وأياً كان الأمر ، فإن العقل وأصحاب المناهج العلمية أو الفلسفية أو العقائدية الأسطورية ، يعجزون كثيراً فيما يتعلق بكثير من قضايا الكون الذي يعيشون فيه، ويعجزون أيضاً في كثير من قضايا النفس والروح والعقل عجزاً لا يقل عن عجزهم في تقديرهم عمر الكون الماضي أو المستقبل... وهذا العجز الذي يتناقضه تناقضاً حاداً في بعض التطورات العلمية التي يبدو الفرق بينها هائلاً يجعلنا نؤمن بأنه لا مناص للبشرية من وحي يضبط كثيراً من المناطق التي يعجز العقل وحده عن اكتشاف كل جوانبها سواء في داخل الإنسان أو خارجه .. ولا مناص من أن يكون هذا الوحي صحيحاً ، حتى تجد الاجتهادات العقلية والتصورات العقدية المغلوطة موازين تعود إليها، ويجد الإنسان "المنقذ من الضلال" الذي يدرك به حقيقة إنسانيته ، وحقيقة دوره في الكون ، وعلاقته بخالق الكون .... ولقد كان كلام الله الأخير حانياً على البشرية وموجهاً لها إلى الحق عندما أخبرها بأن السير وراء كثير من العقائد والعقول ليس أكثر من اتّباع للظن وما تهوى الأنفس .. وذلك ليس رفضاً للمحاولات العلمية ، ولكنه تأصيل للمنهجية العلمية الحكيمة المتواضعة التي تحترم العقل فتضعه في المكان الذي يحسن العقل فيه، وتحترم الوحي فتلجأ إليه للتعرف على ما هو فوق طاقة العقل إيماناً بأن في دنيا (الفيزيقا أو الطبيعة) مناطق تحتاج إلى مساعدة الوحي ، وبأن دنيا (الميتافزيقا) أي ما وراء الطبيعة تعود إلى الوحي في أكثر ما فيها ... ولا دور للعقل فيها إلا في نطاق البحث عن مبررات إيمانه بها واستسلامه لها ... والحق أن البشرية ما ضلت إلا عندما جعلت العقل وثناً يعبد من دون الله، فلم يغنها العقل عن الله، وأظلمت معالم الكون والحياة في فلسفاتها، وشرعت بمنطلق العقل تشريعات حيوانية تتنزّه الحيوانات عن الاحتكام إليها، وأعطت لكل أنواع الظلم الكبرى تبريرات قانونية وفلسفية ... وتحولت الحياة تحت ظلال العقل وفي غيبة الوحي الصحيح إلى غابة كبيرة ، وضاعت المعاني الأساسية للحياة البشرية ، ربانية وإنسانية، وأصبح الصراع هو أصل العلاقات، وقامت حروب عالمية مدمرة، وفسدت الأخلاق الإنسانية، وأحاط الظلام الدامي والفوضى العامة بالحاضر والمستقبل الإنساني . * أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية رئيس تحرير مجلة التبيان