في النصف الثاني من الستينيات، زار المفكر الفرنسي الشهير جان بول سارتر القاهرة، للالتقاء بمفكريها وبمثقفيها، ولإلقاء محاضرة حول " دور المثقف في المجتمع".. جاء سارتر من مجتمع يؤمن بدور المفكر في التغيير، إلي مجتمع يحصر دور المفكر والمثقف في التبرير.. جاء سارتر من مجتمع يري أن الفكر يسبق القول والفعل، إلي مجتمع يعتقد أن " التوجيهات" و"التعليمات" تسبق الفكر والقول والفعل.. جاء سارتر يحدث المثقفين في مصر عن فضيلة التفكير من أجل التغيير، واهتم مضيفوه الرسميون بأن يزور الأهرامات، وأن يري " الكرم المصري علي أصوله: أكلاً وشرباً ورقصاً ".. فلا عجب أن تكون محطة سارتر التالية هي " تل أبيب" حيث تم الاحتفاء به كمثقف، ولا عجب أن تكون محطتنا التالية هي محطة 1967 !!! وقديماً قالوا : إذا أردت أن تتعرف علي ماضي أمة فابحث عن أعمال مفكريها ومثقفيها.. وإذا أردت أن تتعرف علي معالم حاضرها، فابحث عن إبداعات فنانيها وكتابها ومفكريها.. وإذا أردت أن تتعرف علي مستقبل أمة، فاعرف كيف يري هؤلاء المثقفون دورهم في الحياة، ومهمتهم في نهضة الدولة.. فالمثقفون هم البوصلة التي توجه المجتمع، وتحدد المسار الذي ينبغي السير فيه.. والمثقفون هم الإطار الذي يجمع الأجزاء المتفرقة في الصورة ويحدد شكلها وهويتها.. والمثقفون هم أدوات الإنعاش والإفاقة للأمة في أوقات الموات والسبات، وهم أيضاً أدوات التخدير عند الضرورة. المثقفون دائماً في الصورة، وإن اختلفت درجات التركيز عليهم، أو درجة بروزهم فيها.. ودور المثقفين في المجتمع هو دور يحدده المثقف من ناحية، والسلطة والحكومة من ناحية أخري.. كان هتلر في الثلاثينيات يقول : " إذا رأيت أمامي مثقفاً أتحسس مسدسي"، في إشارة إلي موقفه العدائي من كل من يفكر أو يحاول ذلك.. وكانت النتيجة أن هزمت ألمانيا هزيمة قاسية في الحرب العالمية الثانية.. وأن تخسر حربين عالميتين متتاليتين في أقل من ثلاثين عاماً.. وعلي العكس تماماً، كانت أفكار فولتير ومونتسكيو وروسو وغيرهم من مفكري التنوير أساس نهضة فرنسا وشموخها وعزتها.. وكان فولتير يقول "إنني اختلف معك.. ولكني علي استعداد للتضحية بروحي من أجل أن تعبر عن رأيك"!! والعلاقة بين السلطة الحاكمة والمثقفين تحدد إلي حد كبير دور المثقف في المجتمع، وطبيعة الوظائف التي ينبغي أن يقوم بها.. فعندما يعتقد الطرفان أن العلاقة بينهما هي " علاقة تكامل" تزداد المشاركة الإيجابية للمثقفين، وتزداد اسهاماتهم في بناء الحاضر والمستقبل.. وعندما يظن الطرفان، أو أحدهما، أن العلاقة بينهما " علاقة تفاضل" يدب الصراع بين الطرفين، وتنتهي في الغالب بتغييب دور أحدهما وهو في الغالب دور المثقفين، أو علي الأقل يتم تهميشه. وتوجد أشكال مختلفة لطبيعة تفاعل المثقف مع المجتمع، فقد يكون مبادراً ومشاركاً بشكل إيجابي، وقد يميل الي الانسحاب والتقوقع علي الذات، وقد يخون فكره ومجتمعه لحساب مجتمع أخري.. وهو موضوع حديثنا غدا إن شاء الله.