هناك من السفراء الذين تحس نحوهم بمودة شخصية، وليس فقط لصلات العمل أو الزمالة في السلك الدبلوماسي، مر علي القاهرة العديد من السفراء الأمريكيين بعضهم أصبح بمرور الوقت أحباء لمصر ومن أصدقائها، لا أقول أنه يغلب المصلحة المصرية علي مصلحة بلاده، ولكن عقله تفتح لما يحدث في مصر وسياستها ويسعي بالفعل جاهدا قدر استطاعته للتقريب بين البلدين. من هولاء هرمان ايلتز السفير الأمريكي الذي اسميه بالمحترم الذي حضر إلي مصر بعد حرب أكتوبر 1973 عندما أعيدت العلاقات الدبلوماسية التي كانت قد قطعت بعد حرب 1967 والانحياز الأمريكي الواضح نحو إسرائيل في عهد الرئيس الأمريكي جونسون الذي فتح لإسرائيل أبواب أحدث ما في ترسانة الأسلحة الأمريكية. جاء ايلتز بعد جولات كيسنجر في الشرق الأوسط واتصالاته الوثيقة مع الرئيس السادات الذي أراد أن يوظف نتائج حرب أكتوبر من أجل إجلاء آخر جندي إسرائيلي من سيناء. إيلتز كان معه في السفارة الأمريكية مجموعة ممتازة من الدبلوماسيين الأمريكيين، أذكر منهم أبريل جلاسبي التي عينت فيما بعد سفيرة للولايات المتحدة في بغداد وصاحبة القصة الشهيرة التي تدعي أن صدام حسين فهم من آخر حديث له معها أن أمريكا لن تعارض غزو العراق للكويت عام 1990، إيلتز كان نصب أعينه أن يعيد العلاقات بين القاهرة إلي مستوي العلاقات العادية أولا ثم الوثيقة ثانيا بعد قطيعة استمرت ست سنوات أضرت بمصلحة البلدين معا. علي المستوي الشخصي كان شخصا ودودا ومتواضعا، لم يستغل منصبه كسفير للولايات المتحدة وإنما كان لا يتورع عن زياراتنا كدبلوماسيين في مكاتبنا مع أن تعاملاته الرئيسية كان يجب أن تتم مع وزير الخارجية المصري في ذلك الوقت إسماعيل فهمي، كنت مجرد مستشار في مكتب وزير الخارجية والذي لم يعارض مقابلاتنا وأحاديثنا مع السفير الأمريكي أو حتي دعواته علي العشاء في منزله في وقت كان لا يزال الكثير من المسئولين المصريين لا يستطيعون ولا يتقبلون فكرة الاتصال بالسفير الأمريكي الجديد، إذ أن العداء لأمريكا كان لايزال سائدا بين الكثير منا. ولكن ذلك الموقف تغير مع مضي المدة علي السفير إيلتز في مصر، هل كان السفير إيلتز يحاول كما يقولون غسل مخ والتأثير في الدبلوماسيين المصريين؟ لا أعتقد ذلك فإن الدبلوماسية المصرية مخضرمة وعريقة ومدربة ولا يمكن التأثير علي دبلوماسييها بسهولة، وإنما من صميم عمل الدبلوماسي العمل علي إقامة علاقات وثيقة مع الدبلوماسيين الآخرين، ونحن لا نشذ في ذلك عن الآخرين فهذا أسلوب متبع في كل أنحاء العالم. ايلتز للأسف بعد تقاعده في ولاية ماشاسوش الأمريكية توفي منذ عدة سنوات، وكان حتي بعد التقاعد من أكبر المدافعين عن تنمية العلاقات المصرية الأمريكية وظل علي اتصال مع عدد كبير من الأصدقاء الذين كونهم في مصر والذين احتفظوا له بكل المشاعر والود والصداقة. أشرنا من قبل إلي قيام مكتبة الكونجرس الأمريكي بالتعاون مع جمعية الدراسات والتدريب الأمريكية بعمل لقاءات مع سفراء أمريكا في مختلف مناطق العالم بعد تقاعدهم يتحدثون فيها بكل حرية عن ذكرياتهم في العمل الدبلوماسي والاتصالات التي أجروها مع قيادات البلاد التي عملوا فيها كممثلين لواشنطون وتقييمهم لسياسة بلادهم نحو هذه الدول ألخ. أجريت هذه المقابلة الطويلة مع السفير هرمن أيلتز في أغسطس 1988، من غريب الصدف أن نعلم أن والده كان في السلك الدبلوماسي الألماني ولكنه ترك الخدمة والتجأ إلي الولاياتالمتحدة قبل الحرب العالمية الثانية، وهو في ذلك تشارك مع وزير خارجيته هنري كيسنجر الذي ولد في ألمانيا ولكنها طبيعة الولاياتالمتحدة التي في قدرتها امتصاص المهاجرين الجدد وادماجهم في المجتمع الأمريكي، ولو أن كيسنجر لم يخف أبدا ارتباطه ودعمه وتأييده الفاضح لإسرائيل. التحق ايلتز بالخارجية الأمريكية عند نهاية الحرب العالمية الثانية وتلقي دروسا في اللغة العربية وحاول التخصص في منطقة العالم العربي في وقت لم تكن الولاياتالمتحدة تعطي فيه اهتماما كبيرا بهذه المنطقة التي كانت تعتبرها منطقة نفوذ لبريطانيا الحليفة الكبري لواشنطون في هذه الفترة قبل عمله الدبلوماسي بالخارجية الأمريكية درس في كلية فلتشر للعلاقات الخارجية التي تؤهل الدبلوماسيين الأمريكيين الجدد تماما مثل معهد الدراسات الدبلوماسية بوزارة خارجيتنا، يتذكر جيدا أن عميد الكلية استدعاه وقال إنه أطلع علي ملفه وهو يكلفه بإعداد بحث عن الوضع القانوني للسودان المصري البريطاني ولما أخبره أنه يحاول أن يتخصص في الشئون الأوروبية، وقد يرجع ذلك إلي أصله الألماني، وضع العميد نظارته علي المكتب ونظر إليه مباشرة وقال أيها الشاب: إذا كنت تريد وظيفة معنا، أقبل ما طلبته منك قبل ايلتز هذه المهمة علي مضض وأضطر لذلك أن يبدأ في دراسة اللغة العربية في جامعة هارفارد في بوسطون، وبالرغم أنه يقول إن عميد كليته لم يكن شخصا لطيفا إلا أنه يعترف أنه كان أستاذا ممتازا لدراسات الشرق الأوسط، ويقر ايلتز أنه بعد تخرجه والتحاقه بالجيش فأنه أدرك أن الشرق الأوسط مختلف ومثير جدا للاهتمام، ولذلك عزم إذا ما ظل حيا بعد الحرب، أن يتخصص في شئون الشرق الأوسط. ماذا فعل ايلتز بعد ذلك نوضحه في مقال مقبل.