لم يكن مفاجئا أن يبادر قداسة البابا شنودة إلي اعلان موافقة الكنيسة علي مشروع قانون نقل وزراعة الأعضاء البشرية. نعم لم يفاجئنا البابا شنودة لأنه من الرجال القليلين في بر مصر الذين يفهمون في السياسة وفي الحياة تماما كما يفهم كرجل دين مسيحي يترأس الكنيسة القبطية المصرية. كان أغلب الناس ينتظرون رأي الكنيسة في هذه القضية التي تأرجح الموقف فيها طيلة اثني عشر عامًا ما بين معارض شديد للقانون .. ومؤيد شديد أيضا للقانون. الاثنين قبل الماضي عرف الناس رأي البابا الذي هو رأي الكنيسة عندما وقف النائب الصديق د. وجدي لويس أنور في مجلس الشوري ليعلن أن قداسة الباب كلفه شخصيًا بأن ينقل إلي نواب مجلس الشوري موافقته علي هذا القانون الحيوي الخطير الذي تتعلق آمال ملايين المصريين الذين يحتاجون إلي وجود هذا القانون بنفس قدر احتياجهم إلي المياه والهواء. لم يشترط البابا شنودة في موافقته هذه بأي اشتراطات لأنه يعي ويدرك مدي اهتمام القيادة السياسية وأجهزة الدولة بصحة وحياة المواطن المصري من الإسكندرية حتي أسوان حلايب لم تكن وراء تلك الموافقة البابوية أو الكنيسة أية شروط أو مطالب الإطلاق.. ومن ثم استطيع أن أطلق علي موافقة الكنيسة المسمي الذي تستحقه مبادرة رجل يحب الخير لكل مصري. لم يرفض قداسة البابا هذا القانون لإدراكه العميق بأنه لا يجب لأي أحد علي الإطلاق أن يقف ضد سعادة أي مصري يحتاج بشدة كلية أو كبدا أو أي عضو بشري آخر .. وكانت موافقته السامية مصدرًا جديدًا لأمل قديم يتجدد الحديث الثري عنه والنقاش الجاد حوله هذه الأيام .. ولعلي لن أبالغ إن قلت أن مبادرة البابا شنودة جاءت في الوقت المناسب وفي توقيت حرج حيث مازال أعداء إصدار هذا القانون ينشدون ويحشدون الصفوف يستهدفون علي الأقل من وجهة نظرهم تأجيل المناقشات الجارية الآن حوله رافعين حججا واهية مرة يقولون إن التوقيت غير مناسب.. ومرة يتعللون بأنه كيف يصدر قانون مهم كهذا القانون في عام ستشهد فيه البلاد انتخابات في المجلسين .. تجديد نصفي في الشوري، الانتخابات عامة في مجلس الشعب!. ومرة ثالثة يرددون نحن مع القانون ولكن .. وآه من لكن تلك .. ينبغي أن تتم مناقشة مواد هذا القانون بتأن وحذر.. ففي التأني السلامة وفي العجلة الندامة! لم تكن للبابا شنودة كما قال النائب وجدي لويس أية شروط مطلقًا.. ولكن كانت لديه مطالب وعبر عنها النائب وجدي كأفضل وأحسن ما يكون التعبير. قداسة البابا.. تجمعت لديه من واقع بحوث ودراسات عديدة كلف بها معاونيه وخلفاءه ثلاث ملاحظات مهمة عرفها يوم الاثنين الماضي نواب الشوري ومن بعدهم كل رجال الاعلام. ملاحظة البابا رقم واحد إنه يجب أن تتم (وبسرعة) عملية زرع الأعضاء من جسد المتوفي لانقاذ حياة شخص آخر. والملاحظة الثانية لقداسة البابا أنه يجب (التأكد) من ثبوت حالة الوفاة والملاحظة الأخيرة أن يتسم طابع الإجراءات التي ستتخذ (بالسرعة) حتي لا تتعرض الأعضاء المنقولة للتلف والفساد! كانت تلك ملاحظات البابا شنودة التي تنصب كلها - وبالأساس - في صالح مشروع القانون الذي تعثرت مسيرته لسنوات طويلة ذاق فيها آلاف بل وملايين المرضي عذاب المرض وآلام الحياة سواء بكلية أفسدها الدهر أو بكبد أتلفه تجار الأغذية الفاسدة.. أو بأي عضو آخر ضاعت وظيفته بفعل المرض.. والأيام. ولست أشك لحظة في أن البابا حريص كل الحرص - ليس فقط كرأس الكنيسة بل وكذلك كرجل وطني مسئول - علي ألا يشوب عملية نقل الأعضاء وزرعها شبهة المتاجرة فيها. يؤكد ذلك المعني بشكل صريح ومباشر شهادة د. وجدي لويس داخل قاعة الشوري العتيقة بأن قداسته له رأي قوي وحاسم في تلك المسألة.. فالبابا ليس له أي تحفظ وليست له أي شروط.. وتحفظه أو شرطه الوحيد أن يتضمن مشروع القانون نصًا صريحًا يمنع سرقة الأعضاء من الفقراء ونقلها إلي الأحياء!. يستحق موقف البابا المبادرة أن نرفع له القبعة.. ويستحق أن نعنفه بأنه طلقة رصاص لم تخطئ الطريق إلي أعداء القانون.. ويستحق أيضا أن نضع موافقته المحترمة موضع التقدير والاحترام والتبجيل سيما مع الوصف الطيب والبليغ الذي أضفاه قداسة البابا حين قال وأوضح أن زرع الأعضاء بين الأحياء هو أسمي أنواع التضحية ولا يضاهيها في ذلك سوي بذل الروح دفاعًا عن الوطن. لقد أثبت البابا شنودة في عامه ال39 علي كرسي البابوية إنه مازال يحتل رقمًا صعبًا في كتيبة من يحب مصر والمصريين.. وأثبت إنه لم يفقد قدرته الفريدة علي ادهاشنا في كل لحظة وفي أي لحظة.. وأثبت إنه مازال يحتفظ بعبقريته وشموخه وعظمته رغم مشوار عمره الحافل الطويل.. وأثبت كذلك صحة المثل المصري الشهير الدهن في العتاقي!. لست أملك شرف السكوت عن الاشادة بهذا الموقف العبقري لقداسة البابا.. لإنني إذ كتبت مقالاً آخر في هذه المساحة وأرجأت لكتابة هذا المقال لاشعار آخر.. سوف أكون كمن يكتب مقالاً في الوقت الضائع.. تعليقًا علي موقف عظيم جاء من رمز جليل في الوقت المناسب. قداسة البابا تستعصي علي الكلمات التي تستحقها ولكن لعل أفضل ما أختم به هذا المقال هو ما قاله صفوت الشريف في جلسة الاثنين الماضي إننا تعودنا من قداسة البابا الحكمة والمبادرة الطيبة في الوقت المناسب!