من الخارج تبدو القضية هي الأنفاق وقيام السلطات المصرية ببناء جدار فولاذي للهروب من عشّ الدبابير!فمن ناحية تعتبر الأنفاق من جانب إسرائيل والولايات المتحدة وسيلة إمداد لوجيستي حيوية لحركة المقاومة الإسلامية حماس بشكل رئيسي. وتُتهم مصر كما حماس باستخدامها - عند الحاجة - كأوراق ضغط وفقا لتوازناتها وحساباتها السياسية. ومن ناحية أخري فإنّ أهالي قطاع غزة المحاصر يعتبرونها منفذاً مهما لتزويدهم بسلع أساسية يحتاجونها، وبين هؤلاء وهؤلاء فإن الأنفاق هي بالنسبة لأصحابها ومن يعمل عليها مهنة ووسيلة كسب عيش، ولكنها أيضا طريقة مناسبة للإثراء باستغلال ظروف الصراع والحصار . ليس فقط باحتكار توريد السلع الاستهلاكية للمواطنين في القطاع وتهريب الأفراد والسلاح، بل كذلك بتهريب سلع ممنوعة عادة مثل الخمور وحتي المخدرات والدقيق الأبيض. لقد أضحت معلومات مؤكّدة أنّ الأغنياء وحماس وسلطتها في غزّة كلّهم يتاجرون في الأنفاق. وبعد انفصال حماس بقطاع غزّة، سيطرت سلطتها المقالة علي الأنفاق كلها، وتعمل علي المقايضة مع أصحاب الأنفاق. إما أن يكون لها النصف أو تغلق النفق وتعتقل القائمين عليه، وتحتكر حماس العديد من الأنفاق لحسابها مائة بالمائة. فلنغوص تحت رمال غزّة، الملتهبة،بنظرية الأمن الإسرائيلي، وثوابت حماس وحيرة أبومازن ومساعي مصر، واجتهادات المجتمع الدولي القاصرة لإطعام الأطفال وعلاج المرضي، لنلقي نظرة خاطفة علي مأزق غزّة وقد أصبحت كثير من البديهيات في حاجة إلي براهين! من زمن نسب إلي بن جوريون أنّه تمنّي ذات يوم من عام 1956 أن يستيقظ فلا يجد قطاع غزّة علي الخارطة! اسحق رابين تساءل لماذا لايبتلع البحر غزّة؟ الحاخامات اليهود راودتهم نفس الخواطر ولكن بين سطور "التوراة"،فاكتشفوا فجأة أنّ هذا الشريط الساحلي الضيق من فلسطين غير مذكور في خرائط " إيريتس اسرائيل". بقيت غزّة، والبحر لم يبتلعها منذ آلاف السنين !والقطاع الساحلي استمرّ لايضيق بأهله أو يضيق أهله به.ووجدت اسرائيل لنفسها ما اعتبرته حلاّ مجنونا، انسحبت من غزّة وهي تعلم أنّها لن تتحوّل إلي ماكينة لتفريخ الحبّ، وقعد جنودها يراقبون الكراهية ..يعاودون الهجوم والحرب والانسحاب لضبط الأمور! وياللعجب أنهت اسرائيل حربها الوحشية الأخيرة ولم يكن من بين شروطها استسلام حماس وتسليم أنفسهم، هل لاتثق في جدّيتهم في كراهيتها؟ حماس فصيل يعتنق أيديولوجية "الإخوان المسلمون " إن لم يوجد علي الأرض جهاد واستشهاد،كان عليهم أن يخلقوه (الجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمي أمانينا) هذه قضيتهم حتّي يستولوا علي السلطة وتشغلهم الدنيا، وفلسطين ورقة مناسبة منذ فجّرها بلفور. وكارثية كامب دافيد وأوسلو ومدريد، وحروب لبنان وغزّة وصواريخ حزب الله والقسّام، والمبادرة العربية والقدس والمستوطنات والإفراج عن الأسري، والجدار العازل والمعابر والأنفاق وآخر التفاصيل الجدار الفولاذي. كلّ ذلك يبدو منسجما مع وعي ضاع بين التسميات والشعارات وتبادل الاتّهامات.. والهارب الوحيد هو اسرائيل !من يوم أن أعلنت قيام دولتها علي الجزء الذي اغتصبته من فلسطين وهي لم تتراجع، تقوم خطوة خطوة باستكمال مشروعها الصهيوني. أمّا الفلسطينيون، فما كاد العالم يفيق علي حقّهم في تقريرمصيرهم، ويلوح في الأفق مشروع بقايا دولة لهم، وأقيمت السلطة الفلسطينية علي غزّة أريحا، حتّي ظهروا علي العالم بالحكاية العجيبة المعروفة للجميع، انقلبت حماس، وحاولت القاهرة رتق الفتق المهتري بالتفاصيل بين فتح وحماس وكلّ يجذب من ناحية، والعقلاء يصيحون أبقوا بوحدتكم علي البقية الباقية. واسرائيل مثلما ظلت تفعل دائما تنتظر لمزيد من الهروب، والصراع أصبح فلسطينيا أكثر منه فلسطينيا إسرائيليا. ولم تبق الحياة أمامنا إلاّ الطاري وراء الطاري من أجل الإنسان، أوقفوا الحصار! افتحوا المعابر! حرام أن يموت الأطفال جوعا ويهلك المرضي دون الدواء ،من يقدر أن يسيرّ قافلة إغاثة للبؤساء يجزيه الله خيرا . وتوهّج رئيس اتّحاد علماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي ممسكا بخاتم السماء، يحرّم احتفال المسلمين بأعياد ميلاد السيد المسيح كما يحرّم إقامة مصر للجدار، لايملك الخاتم المقّدس في إصبعه أن يمنع الشر ّ المارّ عبر الأنفاق . والجغرافيا والحدود ليست سداحاً مداحاً، وأحلام الحصول علي حلّ من جانب واحد ليست فقط مجرّد هراء، بل هي لغو إجرامي!