ليس سرا أن رئيس مجلس الوزراء اللبناني سعد الدين رفيق الحريري اتخذ قرارا بزيارة دمشق في اللحظة التي قرر فيها أن يكون رئيسا للوزراء. استطاع منذ البداية الفصل بين الجانب الشخصي في قضية تتعلق باغتيال والده وأصدقاء له عملوا من أجل لبنان وقضيته الوطنية من جهة وبين ممارسة المسئولية الوطنية من جهة أخري. تقضي المسئولية الوطنية والظروف العربية بزيارة دمشق بغض النظر عن الدور الذي لعبته في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، علي رأسهم باسل فليحان، والجرائم الأخري بدءا بتلك التي طالت الزميل والحبيب سمير قصير وانتهاء بالرائد سامر عيد مرورا بجبران تويني وجورج حاوي ووليد عيدو وبيار امين الجميل وانطوان غانم. يفرض الواجب أيضا عدم تجاهل الشهداء الاحياء من مروان حمادة إلي الرائد سمير شحادة مرورا بالوزير إلياس المر والزميلة مي شدياق. كانت زيارة سعد الحريري لدمشق حدثا في غاية الأهمية. كذلك محادثاته مع الرئيس بشَار الأسد. هناك رغبة سورية واضحة في فتح صفحة جديدة مع لبنان، اقله إعلاميا. ولكن يبقي السؤال هل الحفاوة بسعد الحريري تعكس تغييرا في العمق في السياسة السورية تجاه لبنان؟ ام أن الزيارة التي قام بها رئيس مجلس الوزراء اللبناني، نجل رفيق الحريري، مجرد صورة سيستخدمها النظام السوري لتأكيد أنه كان علي حق في كل ما اقدم عليه وأن سعد الحريري جاء في نهاية المطاف إلي دمشق من اجل الاعتراف بأنه أخطأ وكان عليه منذ البداية المجيء إلي العاصمة السورية والاعتراف بأن والده قضي نحبه في حادث سير! مرة أخري، الزيارة مهمة. ما هو أهم منها ما سيلي الزيارة. هناك خوف كبير لدي كل لبناني من أن يكون التفسير السوري لذهاب سعد الحريري إلي دمشق بمثابة اعتراف منه بالذنب. عندئذ، لا يعود أمام النظام السوري سوي اعتبار ما حدث تتويجا لنجاحات سياسية علي كل صعيد، نجاحات تثبت، من وجهة نظره، أنه كان علي حق في كل ما أقدم عليه وأن الوقت يعمل لمصلحته. كل ما في الأمر ان رضوخ اللبنانيين للأمر الواقع لم يأخذ أي وقت بعد اغتيال كمال جنبلاط أو بشير الجميل أو المفتي حسن خالد أو الرئيس رينيه معوض. لكن الظروف تغيرت بعض الشيء بعد اغتيال رفيق الحريري وقد احتاج اخضاع اللبنانيين وجعلهم يرضخون للأمر الواقع أربع سنوات وتسعة أشهر. لم يتغير شيء بعد كل هذه المدة. وهذا يعني أن في استطاعة النظام السوري أن يفعل ما يشاء في لبنان من دون حسيب أو رقيب، كما كانت عليه الحال في الماضي. أكثر من ذلك، يستطيع متابعة سياسته التقليدية تجاه لبنان والتي تقوم علي إرسال أكبر كمية من الأسلحة والمسلحين إلي أراضيه كي يجد اللبنانيون دائما وسيلة للاقتتال فيما بينهم. بكلام اوضح، هناك سياسة سورية تقوم منذ العام 1969 تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشئوم علي تغذية الفتن في لبنان بهدف تأكيد أن البلد يحتاج في استمرار إلي وصاية خارجية عليه. هذه الوصاية لا يمكن إلا أن تكون سورية. ولذلك، عندما بحث هنري كيسينجر في أواخر العام 1976 عن طريق لضبط مسلحي منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، لم يجد سوي الجيش السوري يرسله لإتمام هذه المهمة، علما أن معظم المسلحين الفلسطينيين دخلوا إلي لبنان من الأراضي السورية وأن تدفق الأسلحة عليهم وعلي غيرهم مستمر، منذ ذلك الوقت، انطلاقا من الأراضي السورية. قد يفكر النظام السوري بهذه الطريقة ويعتبر أن زيارة سعد الدين رفيق الحريري تؤكد أنه انتصر علي لبنان واللبنانيين، علما بأن رئيس الوزراء اللبناني فعل كل ما يستطيع ليؤكد أن لديه نية في إقامة علاقات أكثر من طبيعية بين لبنان وسوريا ولكن علي أساس المساواة والندية. قد يفكر النظام السوري أيضا في ان الوقت حان للانقلاب نهائيا علي نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، خصوصا بعد خروج الزعيم الدرزي وليد جنبلاط من حركة الرابع عشر من آذار. والانقلاب النهائي علي نتائج الانتخابات يعني التخلص من حركة الرابع عشر من آذار، خصوصا من مسيحييها. إنه يعلم جيدا أن الجيش السوري ما كان لينسحب من الأراضي اللبنانية لولا العامل السني. فقد انضم أهل السنة في لبنان إلي المسيحيين في المطالبة في الخروج العسكري السوري من الأراضي اللبنانية وحققوا ما أرادوه بعدما سال دم رفيق الحريري ورفاقه. ما الذي سيفعله النظام السوري؟ هل يعتبر أن الحفاوة التي خص بها سعد الحريري، بصفة كونه زعيما وطنيا لبنانيا ورمزا سنّيا كبيرا، كافية لفتح صفحة جديدة في العلاقة بين البلدين أم يقدم علي تغيير في العمق في سياسته اللبنانية فيثبت انه تعلم شيئا من دروس الماضي القريب. الامتحان ستحسمه نظرته إلي السلاح غير الشرعي علي الأرض اللبنانية، أكان في أيد فلسطينية أو لبنانية. هل يتوقف عن ارسال السلاح إلي لبنان؟ هل هو قادر علي تمييز نفسه عن "حزب الله" الإيراني، أم أنه اسير النظام الإيراني ورهينة له؟ ساعة الامتحان الكبير تقترب. سيتبين قريبا ما إذا كانت هناك سياسة سورية جديدة أم أن علينا القبول بأن ما ينطبق علي النظام السوري هو ما كان ينطبق علي العائلة المالكة في فرنسا. كان المواطنون يقولون عن أفراد العائلة بعد سقوط الملكية: "لم يتعلموا شيئا، لم ينسوا شيئا". لم يتعلموا شيئا من التجارب التي مروا فيها ولم ينسوا شيئا من عاداتهم القديمة. الأمل بأن يكون النظام السوري تعلم شيئا. كل ما عليه عمله يتلخص بأن يسأل نفسه: لماذا اضطر إلي سحب جيشه من لبنان ما دامت كل سياساته في الأعوام الأربعين الماضية صائبة؟