في المقال السابق اقترحت بعض القضايا السياسية والفكرية والتي ينبغي أن يتصدي لها الإعلام المصري بشجاعة وثقة وقوة بيان مع نفس هادئ طويل لتبصير الناس بالحقيقة والصواب ليكونوا علي بينة مما يطرح عليهم عبر الفضائيات والإصدارات والبرامج الموجهة للمصريين خصوصًا لتشتيت أذهانهم وإضعاف ملكاتهم الفكرية وبالتالي يتحقق ما يريده المشككون من إيجاد فرقة وشقاق في واقع المجتمع المصري حتي يصل الأمر إلي مبتغاه عند هؤلاء فتُسفك الدماء وتضيع جهود التنمية والإصلاح، فمن هذه القضايا التي كانت ولازالت محل تشكيك ديني وآخر سياسي وثالث عسكري ورابع فكري ألا وهي معاهدة كامب دافيد والتي بموجبها صار بين مصر ويهود سلام مقابل استرداد مصر لأرض سيناء، فماذا يطرح المشككون من شبه وضلالات؟ 1- لا تجوز هذه المعاهدة شرعًا لأن الله يقول (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) المائدة آية: (82). 2- أن طلب المعاهدة والسلام يكون من العدو لأن الله يقول (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * وَإِن يرِيدُوا أَن يخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) الأنفال: 61، 62. 3- أن سيادة مصر علي سيناء ليست كاملة. 4- أن معاهدة كامب دافيد قيدت قوة مصر الإسلامية. 5- أن يهود لازالوا علي احتلالهم لفلسطين وتقتيلهم لإخواننا الفلسطينيين، وهذا خيانة للإسلام والمسلمين. 6- أن حرب العاشر من رمضان ما هي إلا تمثيلية لعقد معاهدة السلام وأنه لم يكن هناك نصرٌ للقوات المصرية وأن الجيش المصري قد هُزم واستدلوا علي ذلك بموضوع الثغرة.. إلي غير ذلك من التُّرهات التي نجحت في زعزعة الثقة بعض الشيء في مصر حكومة وشعبًا وقيادة وجيشا فنجم عن ذلك استنفار معنوي يشوبه حقد عنيف تجاه مصر وأهلها خاصة قيادتها ويظهر ذلك من خلال المواقف الإعلامية التي تصدر من قبل بعض القنوات في الداخل أو الخارج، وكان آخرها ما عبَّر عنه الجزائريون حكومة وشعبًا تجاه أحداث المباراة الشهيرة فوضع بعض السفهاء نجمة داود علي العلم المصري. وللرد علي ما سبق من شبهات وضلالات ألخصه فيما يلي: 1- الاستدلال بقوله تعالي: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) ليس في محله لأن المعاهدة بيننا وبينهم لا يترتب عليها نزع العداوة بيننا وبينهم وإنما المعاهدة سببها ظرف ووقت ومكان وقدرة علي مواصلة الحرب من عدمها وتحقيق نصر شامل وكامل باسترداد فلسطين بأسرها، ومن هنا فيجب التعامل الإنساني أو الاقتصادي أو السياسي أو العسكري في كل مجالات الحياة مسألة أخري أوجبتها سنَّة الله الكونية في تعامل المسلم مع غير المسلمين، بمعني آخر أن اختلاف العقائد لا يستلزم منها منع المعاملات بل والإحسان فيها بين المسلمين وغيرهم، فالمسلم قد يكره من مسلم آخر فعلاً مخالفًا أو بدعة محدثة في الدين مع أن كليهما علي ملة الإسلام ولا يمنع ذلك التعامل الحياتي اليومي وإن وجدت الكراهة القلبية ورابطة الإسلام، فمثلاً مسلم يشرب خمرًا أو يزني بامرأة فهو محل كراهة قلبية من المسلمين الممتنعين عن هذه الموبقات مع أن رابطة الإسلام قائمة بين المسلم الملتزم وبين المسلم شارب الخمر أو الزاني، فكثير من الدعاة خاصة في هذه الأيام يخلطون ما بين الحب في الله والبغض في الله وبين التعامل بيعًا وشراءً وأخذًا وعطاءً، إذن فالعداء القلبي بسبب المخالفات الشرعية لا يستلزم الاعتداء علي المخالفين أو الامتناع عن التعامل معهم إلّا إذا بادرونا بالاعتداء وبشروط وضوابط مدونة في فقه الجهاد وقد يأتي بيانها فيما بعد. 2- الآية (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ...) وإن كان يفهم منها أن الجنوح للسلم من قِبَل العدو والذي حدث أن مصر هي التي بادرت بطلب السلم، والرد علي ذلك فيما يسمي عند الأصوليين قياس الأولي، بمعني أن الشرع أجاز للمسلمين قبول جنوح أعدائهم للسلم فمن باب أولي يجوز إذا جنح المسلمون لذلك لأن الجواز في الحالة الأولي يدل علي قدرة المسلمين العسكرية وعلوهم علي عدوهم، والحالة الثانية تدل علي ضعف في المسلمين تجاه أعدائهم فجاز ذلك بداهة ولكن أين العقول التي غابت عنها بداهة الأمور؟ 3- القول بأن السيادة المصرية علي سيناء ليست كاملة قول مرسل يكذبه الواقع والمشاهدات اليومية من الدخول والخروج من سيناء جنوبًا وشمالا وشرقًا وغربًا ووجود المصانع والمزارع والمدن الجديدة والمحافظات الإقليمية والقوات الأمنية وهنا أقول إن الفصل في إبرام المعاهدات أو نقضها هو اجتهاد ولي الأمر المُمَكَّن علي أرض مصر وفق مصالح يراها أو مفاسد وهذا هو المقرر شرعًا في الفقه الإسلامي وأتحدي أن يأتي مدعٍ باسم الإسلام بخلاف ما أقول ألا وهو (إعلان الحرب وإعلان السلم إنما هو لولي الأمر أي الحاكم المُمَكَّن المسلم) والذي تم كان باجتهاد حاكم عسكري وسياسي مُمَكَّن خاض الحرب وحقق نصرًا بقدر طاقته وطاقة جيشه وإمكانياته العسكرية والاقتصادية والله يقول (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (لاَ يكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) الآيات، فلقد قام الرئيس الراحل محمد أنور السادات - رحمه الله - بإعداد العدة وإعداد البلاد وفق قدرات وقته وزمانه ومكانه فعَبَر الجيش المصري قناة السويس أكبر مانع عسكري مائي وحطم خط بارليف المنيع وعبَرت القوات المسلحة وهذا حقٌ يقيني لا يشكك فيه إلا مخبول ومن ينصت لهؤلاء فهو مخبول مثلهم، وهؤلاء ليسوا أهلاً للمناقشات والحوارات لأن أماكنهم المصحات العقلية. 4- الزعم بأن مصر بمعاهدتها مع يهود أضعفت قوتها وقوة المسلمين مجرد زعم لا يستند إلي منقول أو معقول، لأن مصر ليست لها ولاية عامة علي المسلمين في العالم وإنما ولايتها علي حدودها فحسب ومن أراد أن يكون لمصر ولاية عليه فعليه أن يبادر بالدخول في بيعة قادتها حينئذٍ يكون لمصر موقف آخر غير الموقف الوطني، فمن أراد مصر كقوة عسكرية أو بشرية فعليه أن يتعاون معها بمنطق الشرع ثم منطق العقل والواقع المتاح لا أن يتعامل معها بعموم نص أو دليل لا يرتبط بأرض الواقع أو بتحقيق المصالح ودرء المفاسد فعمومًا المسألة لا تعدو أن تكون اجتهادًا اجتهدت فيه مصر فإن أصابت (وأظنها أصابت) فلها أجران وإن أخطأت فلن تُحرم الأجر، فعلي هؤلاء المتاجرين بالشعارات الإسلامية أن يكفّوا عن غوغائيتهم وعليهم أن يرجعوا إلي التاريخ العملي الذي دُونَت فيه مواقف سياسية وأخري عسكرية من خلال أئمة وخلفاء وأمراء لهم مكانتهم التاريخية عند المسلمين، فمثلًا عليهم أن يرجعوا إلي ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعية، وإلي ما كتبه تلميذه ابن القيم في إعلام الموقعين وإلي غيرهم من الذين كتبوا في فقه الجهاد والمعاملات قديمًا وحديثًا وفق أدلة الكتاب والسنَّة ومفاهيم السلف الصالح.. وللحديث بقية