معروف طبعًا أن المغنية الصلعاء هي اسم لأهم مسرحيات العبث اليونسكاوية وهي قمة السخرية فعنوان المسرحية يتحدث عن مغنية ذات سمة واضحة فهي (صلعاء) لكنك عندما تقرأ النص للمرة الألف فلن تجد إلا سطرين هما سؤال وجواب. السؤال: ما هي أخبار المغنية الصلعاء؟ الجواب: مازالت تصفف شعرها بنفس الطريقة - (بس) هذا هو تمامًا ما دار في ذهني بعد ذهول لحظة تاريخية مرعبة ومفاجئة وخطيرة وهي اللحظة التي أطلق الرصاص علي منصة القادة في احتفال عسكري كبير وسقط الرئيس السادات، وبقدر الآلام العظيمة التي شعرنا بها بقدر ما سادنا شعور بفقدان الأمن والأمان الذي تحدث عنه السادات طويلاً ومع فقدان الأمان فقدنا كذلك ما توهمناه قائمًا وهو الاستقرار - والذي علي أساسه ستدور الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية لما هو أفضل بعد حروب طويلة شرسة وانتصار عسكري مبهر. بعد طوفان الدموع والأسي والذهول لم أجد في كل القصة إلا غرابتها التي تؤكد العبث الشديد ولم أجد شخصًا استشيره إلا يونسكو ولم أجد إلا (كل أعماله) لتؤكد التصريح بكل المسكوت عنه في حالة (الخواء) الشاملة التي اعترتني شخصيًا، فقد وجدت أن وهم الاستقرار والأمن والأمان وتحكيم المنطق والعقل ينقلب رأسًا علي عقب. هنا أمسكت بالقلم وكتبت عنوانًا طويلاً (وما زالت - المغنية الصلعاء - صلعاء) وعندما سألني صديق: لماذا كلمة (مازالت)؟.. قلت: لأني تصورت أنه لم يعد هناك مجال للعبث والهروب من مواجهة الحياة كلها (لعبة غير محسوبة) عندما عبرنا وانتصرنا، ذلك هو اليقين الذي ينفي شبهة العبث والضياع. - لكن العبث عاد، وعادت المغنية الصلعاء، ولا أجد (عرضا مسرحيا) ينقل مشاعري عن اللحظة إلا هذا العمل الذي أعده فهو (سلطة) من كل أعمال يونسكو التي يؤكد فيها كل اللخبطة التي يحياها جيلنا وكل الضياع والانزلاق الفكري واللغوي الذي تعاملنا به مع أخطر قضايانا وكل الأحلام والهلاوس التي نعيشها - ثم كل النتائج غير المتوقعة والمبنية علي مقدمات غير متوقعة - إنه العبث ما زال قائمًا، واليقين مازال غائبًا والقرعاء ما زالت تصفف شعرها. وضحك صديقي ولم يفهم لكنه ضحك، وحاولت شفاء ذاتي وأنا أعالج نفسي بجرعات من الذوبان في اللامعني واللاسبب واللا محتوي ووجدت نفسي أقف علي شرفة الخواء أخاطب مستمعًا لا يسمع ولا يدري وأتكلم كلامًا جادًا جدًا، لكن لا معني له ووجدت نفسي لا أرثي القائد الذي رحل ولا أعلق علي ما جري ولا أفكر في شيء يأتي ولا أحلم بأي جديد ووجدت أن القصة كلها تكسرت شظايا علي أرض الواقع وتسللت الحقيقة من بين أيدينا وبدأنا صفحة جديدة من التاريخ ستبدأ قريبًا لكني كنت قد تمزقت فعلاً وفقدت رأسي وأمني واهتزت قناعاتي ووجدت نفسي في هلاوس يونسكو وتخاريفي ما يصلح تمامًا لمواجهة جمهور القاعة التي سوف تأتي لتطرح نفس السؤال الكبير الذي يسأله الكل وهو: ماذا جري في مصر؟! وبالتأكيد يونسكو لم يكن يعنيه ما يجري في مصر بالتحديد، لكنه كان يري العالم كله قطعة من الفوضي وانعدام اليقين وابتلعت يونسكو كله وكونت من معظم إبداعاته عملاً واحدًا - جعلته مغموسًا بشدة في اللحظة الراهنة ويحلق حوله تمامًا أبرز المعالم المعاشة - انعدام الأسباب وخفاء المعلومات وخواء الخطاب، وظهور الأشباح، وتشابه الناس وتوحيد اللغة التي لا قيمة لها فتصبح لغة الناس هي (المواء)، ويصبح العالم (مصنعًا) للإفراخ، والدنيا (مفقسة) للبيض حيث تتولي المذابح والحروب عمل عجة كبيرة من الإنسان الذي لم يعد له وجود متفرد. تسللت النظرة المتشائمة والعبثية هي في الحقيقة دخان كثيف أو ضباب يخفي تمامًا المأساة المعاشة ويضلل المشاهد الذي جاء لكي يعرف ماذا جري ولأننا لم نكن نعرف شيئًا، فلم يكن لدي إلا المغنية الصلعاء أقدمها للناس دلالة علي عدم الفهم فهو يأس وهو أيضًا راحة فعلاً. لقد ضحك جمهور القاعة بشدة وانكمشوا من الخوف والرعب أحيانًا وعندما تضاء مساحة (وعي) يصفقون - فقد توهموا أنهم قد فهموا شيئًا. لكننا نحن صناع العرض ومشاهدوه كنا في نفق واحد من (سوء الفهم) وضياع القصد - كنا في (كابوس) فعلاً هو الكابوس الجماعي الذي لا يخرج مطلقًا عن عدم الفهم ولحظة الدهشة والفزع - وخلاص.