القياس مع الفارق بين هذا العنوان وبين الحال التي كانت عليه مصر ما قبل الثورة من الفقر والجهل والمرض والتشابه واقع نعيشه الآن ما بين الفقر المائي وبين الجهل الدفين لاستخدام مياه المجاري في الزراعة وبين المرض الذي استشري في أجسام الناس علي طول وعرض وادي النيل، من المعلوم لدي كل من يقرأ ويكتب أن مصر تعاني من الفقر المائي منذ عدة سنوات حيث زادت معدلات السكان واستهلاكهم من المياه وخططهم للتنمية وسوء إدارتهم للموارد وعشوائيتهم في زراعة المحاصيل بالإضافة إلي المشاكل المحتملة مع دول حوض النيل التي تنبع منها مصادر المياه. كل ذلك أدي إلي الوصول بحصة الفرد إلي ما يقرب من سبعمائة متر مكعب من المياه سنويا لكل الأغراض التي يبتغيها المواطن المصري، ولقد كانت - ولا تزال - حصة مصر من مياه النيل التي تصل لحدودها الجنوبية هي خمسة وخمسون مليار متر مكعب كل سنة لكونها دولة المصب بعد السودان، أضف لذلك خمسة مليارات أخري من المياه الجوفية ليصبح المجموعة ستين ملياراً من الأمتار المكعبة لتوزيعها علي خمسة وسبعين مليونا من المواطنين تقريبا، ولقد ناقشت تفاصيل ذلك هنا علي صفحة الرأي مع آخرين تناولوا الموضوع بجوانبه المتعددة، ومن المعروف أن مياه الري لها نصيب الأسد من تلك الحصة بما مقداره ثلاثة أرباع الكمية وزيادة أما الباقي فهو لمياه الشرب والصناعة والاستخدامات الأخري. ونظام الري في مصر موروث من عهد الفراعنة بطريقة الغمر أي تغطية الحقول بغطاء مائي كل حين يتوقف سمكه علي نوعية المحصول وتوقيته ثم يتسرب الماء عبر مسام التربة إلي قنوات الصرف التي تقوم بتجميع مياه الصرف الناتجة عن غسيل التربة وبها كل الزيادات من الملح والأسمدة والمبيدات الزراعية المختلفة. هذا الصرف الزراعي كان قديما لا يدخل في دائرة الخطورة لأنه خال من الكيماويات الزراعية المستخدمة للتسميد ولمكافحة الآفات وكلها مركبات ضارة بصحة النبات والحيوان وبالطبع الإنسان، وهذه المنتجات طويلة الأمد وقوية المفعول وبالغة الضرر، ويكفي القول بأن سماد اليوريا يصل إلي اللبن الحليب بعد تواجده في التربة ثم النباتات ثم طعام الماشية، كما أن هناك نسبة قد تتجاوز المسموح به من كل أنواع المركبات الكيميائية في نسيج النبات والحيوان وتصل للإنسان في طعامه وربما تنصرف أو تبقي في الجسم، مما يسبب أنواعا مختلفة من المرض وعلي رأسها السرطان حيث إن تلك المركبات تعمل علي قتل الآفات الزراعية وما يزيد منها يقتل البشر أنفسهم. في بعض القري بدأ الخلط بين مياه الري ومياه الصرف نتيجة لنقص في الأولي والزيادة في الثانية ولجأ المزارعون إلي استخدام ذلك الخليط في ري المحاصيل، ولقد كانت مزرعة الجبل الأصفر يتم ريها من مجاري القاهرة قديما لأنه فقط مياه صرف صحي وآدمي ولم تختلط بمياه صرف المصانع التي زاد عددها ونوعياتها في الستينيات، كما أن عملية التنقية حينها تمكنت من العمل علي حجم مياه الصرف قبل الزيادة لكن القاهرة الكبري زادت في المساحة والحجم وعدد السكان ومعدلات الصرف ونوعيته مما أدي إلي عدم صلاحيته للري. وللتأكد من صحة هذا القول يمكن زيارة مصرف بحر البقر الشهير كي يري المياه السوداء بما فيها من سموم تصب في بحيرة المنزلة دون معالجة؟! الذي حدث هو أن الصرف صار مختلطا من مياه الصرف الزراعي والصرف الآدمي وزاد عليها الصرف من المصانع باختلاف أنواعها، بل إن صرف المساكن لم يعد من المخلفات الآدمية فقط ولكن تداخلت معه مياه صرف الغسالات المختلفة وتلك المساحيق والسوائل من غسيل ملابس والأواني وكلها مركبات معقدة منها ما يزيل البقع والدهون ومنها ما يغسل أكثر بياضا، ولا يدري المستهلك مدي الضرر الناجم عن تلك المنتجات. ويكفي القول بأن مادة الكلور قد تم وقف استخدامها من فرنسا منذ أكثر من عشرين عاما سواء لتنقية المياه أو للأغراض المنزلية الأخري رغم زيادة استخدامها مؤخرا في مصر؟! الحقيقة أن مياه الصرف يمكن معالجتها عبر مراحل متدرجة من المعالجة الأولية التي يتم فيها فصل السائل عن الصلب ثم المعالجة الثانية وبعدها يمكن ري محاصيل لغير الاستهلاك الآدمي كما يحدث في فنادق النجوم الخمس في جنوبسيناء والبحر الأحمر ثم المعالجة الثالثة وعندها تصلح المياه للري أما المعالجة الرابعة فهي التي تصلح للشرب كما حدث عند زيارة الرئيس ريجان لمحطة معالجة مياه الصرف. التكلفة عالية في المرحلتين الأولي والثانية وباهظة في المراحل التالية، ونظرا لضيق ذات اليد ونتيجة للانفجار السكاني والعشوائيات فإن مياه الصرف في مصر لا تصلح لأي شيء، ولعلنا نتذكر ما حدث منذ عقدين في قضية الصرف علي البر أو البحر في الإسكندرية وكانت الصورة تدعو للقرف لولا المشروعات التي تم تنفيذها لبقي الحال علي ما هو عليه، وللعلم فإن كل حيز من الماء يمكنه استيعاب قدر محسوب من مياه الصرف ولكن ما يزيد علي ذلك يعتبر من الجرائم البيئية في حق البحر أو البحيرة أو النهر أو أي حيز مائي كبر أم صغر؟! المرض هو النتيجة النهائية لفساد الري والصرف والزراعات المحرمة صحيا ودينيا واجتماعيا ولنا أن نتخيل ما يحدث للمحاصيل والخضروات والفواكه التي يتم تسميمها بمياه فاسدة وبعدها تذهب للأسواق بما في أنسجتها من سموم تدخل الجسم ولا تخرج بل تبقي في الأعضاء التي خلقها الخالق لتنقية الجسم من الضرر، تماما مثل ما يوجد لكل السيارات من تنقية الهواء والوقود والزيوت، الرئة لتنقية الهواء قبل استعماله في التنفس والكلي لتنقية الدم من الشوائب والكبد لتنقيته من الدهون والشحوم الضارة ولذلك فإن حالات الفشل للكبد والكلي والرئة تحدث كثيرا هذه الأيام نتيجة فساد الماء والغذاء والهواء الذي نعيش فيه ونحن أيضا السبب فيه ويبقي شعار الفقر والجهل والمرض في عرض دائم ومستمر منذ عشرات السنين وإلي حين.