مباراتان في كرة القدم.. أحدثتا ما لا يجب أن يحدث بين مصر والجزائر! نعم إن كرة القدم تلك اللعبة الساحرة تسحر كل شعوب العالم.. نعم إنها اللعبة الوحيدة والمتفردة من بين كل أنواع الرياضة التي تشد الجماهير وتلهب حماسهم وتفرغ كل الشحنات الكامنة بداخلهم.. وهي اللعبة التي يفرغ فيها الجميع حكاما ومحكومين كثيرا من الرغبات المكبوتة.. ناهيك عن حجم الممارسة الذهنية والجسمانية التي تبذل من خلال التشجيع والمتابعة قبل المباراة وبعدها.. الشيء الذي يستغل كنوع من الإلهاء الجماهيري بعيدًا عن تفعيل كل تلك المشاعر والأحاسيس والرغبات في إطار آخر وليكن الإطار السياسي.. ولذا نري تلك التجمعات الجماهيرية بصخبها وثورتها الزائدة في التعبير عن فرحتها عند النصر في مباراة رياضية علي الفريق الآخر ولا تمثل تلك التجمعات أي خطورة علي الأمن في مقابل الخوف من بضع عشرات من الجماهير يتظاهرون لسبب أو قضية سياسية.. وإذا كان التشجيع والحماس لفريق ما أو للفريق الوطني مطلوبًا وجائزا ولكن لابد أن يكون هذا في إطار قيم رياضية تتحلي باحترام الآخر وحفظ حقه في المكسب طالما يستحق ذلك.. وألا يكون هذا الحماس نوعا من أنواع الممارسة غير المشروعة والتي تدخل في إطار البلطجة وليس التشجيع الرياضي المشروع.. ولكن وللأسف الشديد فإن ما تم في إطار لقاء مصر والجزائر في مصر يوم السبت 14/11 في القاهرة وما تم بينهما أيضًا في لقائهما في الخرطوم يوم الأربعاء 11/18 لا علاقة له ألبتة لا بتشجيع مقبول ولا بحماسة مشروعة ولا بقيم لها أي علاقة بالقيم الرياضية التي يجب أن ترقي بالأخلاق والممارسات.. وحتي يمكننا أن نستفيد من الأحداث المؤلمة والوقائع المؤسفة التي حدثت فلابد وبهدوء من تقييم ما حدث والتأكيد علي سلبيات تلك الأحداث حتي نتدارك أمثالها مستقبلا وإن كان هذا لابد أن يكون في مناخ أكثر هدوءًا وأكثر تركيزا وفيه إعمال للعقل أكثر من انفعالات العاطفة.. ولذا نري أولاً: لا شك فإن الإعلام خاصة البرامج الرياضية والصحف الرياضية في مصر والجزائر قد قامت بعملية حشد وتسخين بل وصلت الأمور إلي نوع من التجييش لكلا الجماهير هنا وهناك وكأن المباراة هي معركة عسكرية وليست مباراة رياضية.. خاصة أنه قد تم استدعاء الأغاني الوطنية والأناشيد الحماسية التي لا علاقة لها بمباراة كروية.. والأهم أن هذا الشحن قد وضع الوطن وانتصاراته في مستوي ذلك الانتصار الكروي الذي مهما كان فهناك فرق بين الوطن وبين الكرة.. ثانيا: قد تم استغلال العلم الوطني ذلك الرمز الذي يمثل عنوان الوطن معنويا ونفسيا بشكل فيه تجاوز في غير موضعه.. وللعلم فأنا هنا دائمًا أدعو وقد كتبت قبل ذلك وضربت مثلا للتعامل التركي مع علم تركيا.. فالعلم المصري يجب أن يكون موضع فخر وفخار دائمًا وعلي مدار الساعة بل يصبح جزءا من حياة المصري اليومية.. لا أن يكون حاضرًا لاستغلاله في مباراة أو لإثارة أحاسيس جماهيرية في لحظة بذاتها.. ولذا أسأل أين الأعلام بعد المباراة ولماذا لا تستمر فوق المباني وعلي المحلات؟ وبالطبع فأنا لست ضد رفع الأعلام للتشجيع في أي مباريات.. ثالثًا: لا شك في أن لقاء مصر والجزائر ما كان يمكن له جماهيريا اسقاط التاريخ السابق للممارسات العنيفة من قبل الجزائريين ضد المصريين في مباريات سابقة تمت في الجزائر.. ولا يمكن لأحد أن يغفل عن طبيعة المشجع الجزائري العنيفة والقاسية.. ومع ذلك فلا شك أن ما حدث في الخرطوم من أحداث مؤسفة لا يعود فقط لتلك الطبيعة للمشجع الجزائري ولكن ما حدث يؤكد تلك النية المبيتة والمخطط المعد سلفا والشواهد علي ذلك كثيرة قد جاءت علي لسان أغلب المصريين الذين كانوا في الخرطوم، حيث كانت الخطة تهدف إلي محاصرة الجماهير المصرية وهي خارجة من الاستاد، حيث كان هناك الآلاف من الجزائريين خارج الملعب وفي شوارع وحواري أم درمان ولا عمل لهم غير التسلح بالسلاح الأبيض الذي قاموا بشرائه من محلات أم درمان.. ناهيك عما يقال عن طبيعة المشجعين من الجزائر الذين تم إخراجهم من السجون وقد تم شحنهم في طائرات عسكرية.. وكل هذا ليس مؤشرًا بل يؤكد للأسف الشديد تورط المسئولين في الجزائر في الإعداد والتخطيط والتنفيذ لهذه المهمة العسكرية وليست المباراة الرياضية.. والأدل علي ذلك هو هذا الإدعاء الذي أطلق من الإعلام الجزائري بوجود قتلي جزائريين بعد مباراة القاهرة وذلك كمبرر لما سيحدث في الخرطوم.. رابعًا: هل يمكن هنا أن نقول إن هذا التصعيد المؤسف الذي لا علاقة له لا برياضة ولا مباريات كرة قدم.. هل هو تصعيد سياسي في المقام الأول.. وهنا لابد أن نفرق بين ممارسات جماهيرية غير مقبولة ومتجاوزة لكل حدود التشجيع وبين خطة معدة وبإمكانات الدولة وبمباركة المسئولين.. فهل موقف السلطة الجزائرية وما قامت به في الخرطوم له علاقة بموقف مصر من قضية الصحراء بين المغرب والجزائر؟ وهل هذا يجعلنا نتذكر عدم تلبية رئيس الجزائر دعوة رئيس مصر لحضور القمة الأفريقية الأخيرة في شرم الشيخ؟.. خامسًا: ما تم في الخرطوم لا شك يصب في اتجاه المساس بالكرامة الوطنية المصرية الشيء الذي يجعل المواطن المصري والمسئول المصري في وضع لا يملك فيه سوي رد اعتبار هذه الكرامة.. وهذا لا شك يصل إلي مرحلة تصعيدية حتي ولو كانت نتيجة للشحن والألم النفسي لما تم في الخرطوم.. وهذا التصعيد يمكن أن يصل إلي مراحل لا يجب أن تكون ولا يمكن أن يتمناها أي عربي يقدر العروبة والأخوة العربية التي تجمع كل العرب.. فلمصلحة من نتائج ما حدث؟ ومن الذي وراءه؟ وهل من اللائق في الوقت الذي توحدت فيه أوروبا نصل نحن لما قد وصلنا إليه؟ وكيف تستقبل إسرائيل هذا الذي حدث.. وأي فرحة تعيشها الآن إسرائيل؟ وهل في هذا المناخ يمكن أن نتحدث عن توحد عربي يحمي الأقصي مما يحاك له من الصهاينة؟ وهل وصلت الأمور إلي نسيان كل ما هو مشترك من دم وعروبة ومشاركة ومساندة في إطار المصير والحياة؟ التصعيد إلي آخر الخيط ليس في صالح مصر ولا الجزائر ولا أي بلد عربي.. فهل نذكر باحتلال العراق للكويت والنتائج الكارثية التي نعيشها جميعا وإلي مستقبل بعيد غير منظور؟ فعلي القيادة المصرية أن تتمسك بقيم مصر وحضارة مصر فهذا قدر تاريخي وحتمية جغرافية.. وعلي الجزائر الاعتذار فورًا عما حدث فما سيحدث لن يكون في مصلحتها.. وإلي جماهير مصر والجزائر فإن القومية العربية لا يجب أن تختصر في فعل شائن من مسئول عربي أو في بلطجة مرفوضة من سلوك شاذ أو أن نجعل القومية العربية رهن مصير مباراة كرة هنا أو هناك.. ولكن القومية بجذورها وبضرورتها لمستقبل عربي يجب أن نجنبها بعيدًا.. وهذا لا يغني أن نسترد كرامة المصري ولكن بالأسلوب المصري المتحضر.