الفرق بين الحلم وبين تحقيقه.. قد يكون شعرة. لكن أحيانا ما يكون العمر كله. وقد ينقضي العمر ولا يتحقق الحلم. كان حلمنا بالوصول إلي كأس العالم مشروعا وواقعيا وكدنا أن نصل إليه بالفعل ولا أملك أن ألوم القائمين علي منتخبنا. فهذه هي كرة القدم. لا تعرف نتيجة المباراة إلا بعد صافرة النهاية. لكن ما حدث في الأيام الأخيرة يكشف للمرة الألف عن منهج تفكيرنا. كان بين فريقنا وبلوغ الحلم شعرة لكننا خسرنا المباراة. أما الإعلام عندنا صحافة وراديو وتليفزيون فقد فاز فوزاً عظيما عمل له بدأب وإلحاح فحصل علي الملايين وحصل رجاله علي شهرة تفوق شهرة أبوتريكة، الخدمة الكبيرة التي قدمها الإعلام للمصريين هي تشجيعهم علي أن يشجعوا فريقهم!! وذلك باعتبار أن الإعلام أكثر وطنية من الشعب. بدليل أن الإعلام راح يؤكد لنا أن الفوز قادم لا محالة قبل المباراة الأولي وقبل المباراة الثانية وكنا في انتظار إعلانه فقط. وقد صدق الناس ذلك. وكيف لا يصدقون والصحافة والتليفزيون لا شغل لهما إلا بث ذلك علي مدي 24 ساعة بلا ملل. فذلك يعني البيع. بيع الصحف وترويج القنوات الرسمية والخاصة وهو ما يعني جلب إعلانات بالملايين ومكافآت للسادة المذيعين يليهم خبراء الكرة، ولشحن النفوس أو الجيوب أصبح الفوز في مباراة كرة يسمي "النصر"، واللعب صار "القتال الشرس" واللاعبون "كتيبة من الفدائيين" وأخبار عن مد "جسر جوي" إلي السودان، ومقابلات مع رجل الشارع ومع بعض الفنانين الذين سيسافرون للسودان لعل أضواء الشهرة التي هجرتهم تعود لهم، وأصبحت المباراة "معركة" فتعاد مئات المرات الأغاني الوطنية خاصة التي قيلت في وقت النصر. فرغم أن المباراة لم تبدأ إلا أن النصر قد تحقق بالفعل إذ تحول الإعلام إلي قارئة فنجان جاءت لنا بالنتيجة وأكدت أن قدامنا سكة سفر إلي المونديال بعد خطوتين. فقط قول ورايا "يارب. النصر لنا بإذن الله وإن شاء الله" باعو هذه الجمل بالملايين ما الجديد فيها؟.. هل لا يصدق المصريون أن كل شيء بيد الله ليتعلمها علي يد الإعلام؟! ألا يعلمون أن كل شيء بإذن الله تعني أننا قد نفوز وتعني في نفس الوقت أننا قد لا نفوز؟؟ لاقدر الله طبعا!. علي العكس المصريون من أكثر شعوب الأرض إيمانا بذلك ونحن نقول دائما الحمد لله حتي عندما تقع علي رءوسنا الكوارث. لكن الإعلام احتاط لذلك فراح يطلب منا آلاف المرات أن نقول خلفه يارب، هل ينسي المصريون قولها؟ هل لا يقولها المسلم والمسيحي في داخله عشرات المرات قبل أن يقولها بصوت عالٍ؟ أم أن الإعلام تحول إلي إمام نردد خلفه الدعاء؟ هل غاب ذلك السر عن فريق الجزائر الذي نكرر دائما أنهم إخوة أشقاء لنا وعرب مثلنا ومسلمون مثلنا؟!.. بالطبع لا بل قالوها بالعربية المخلطة بالفرنسية "فكتوار يارب" أي النصر يارب! وأحيانا بالإنجليزية والفرنسية معا "ون.. تو.. ثري فيفا لا لجيري" أي "واحد اثنين.. تلاتة تحيا الجزائر". فهل فوزهم يعني أن نيتنا لم تكن صافية؟ أو إيماننا ناقص؟ لم يأخذ الإعلام وقت الناس وفلوس الناس فقط بل أخذ فينا ثوابا عندما طلب منا تكرار الدعاء ليضمن لنا الفوز أو النصر بمعني أدق. وهكذا ظل الناس في انتظار إعلان النصر الذي وعده به الإعلام ولا شيء غير الفوز وأصبح السؤال الذي يشغل أذهانهم هو كم الأهداف التي سنحرزها في شباك الجزائر؟ في ساعة متأخرة من مساء الليلة السابقة علي المباراة أكد لنا مذيعو ثلاث قنوات فضائية انضمت معا علي أن النصر قادم لا محالة وجاءوا بخبراء الكرة وجاءوا ببعض الفنانين والمطربين وجاءوا بشباب داخل الاستوديو وأجلسوهم مثل كومبارس ليمثلوا دور الجمهور أو كورس خلف المطرب. يشير لهم المذيع من آن لآخر فيقفون ويدقون الطبول ويهتفون.. مصر تحيا مصر. وهكذا راح الكل يشجع فريقنا بينما فريقنا في معسكره بالسودان لا يري ولا يسمع ولا يتكلم!. وفي ختام البرنامج في ساعة متأخرة من مساء أو صباح ليلة المباراة وعدنا مذيعو القنوات الثلاث المندمجة بليلة طويلة في الغد للحديث عن فوز فريقنا. لكن فور انتهاء المباراة لم يظهروا وأذاعوا فيلما عن التزحلق علي الجليد ثم فيلما عن مصارعة الثيران! عشت هذه الأجواء قبل ما يقرب من نصف قرن. عندما أقنعنا الإعلام بأننا سنقضي علي إسرائيل ونلقي بها في البحر. وهكذا انتصرنا قبل أن تبدأ الحرب وغني عبدالحليم "كلنا عايزين صورة تحت الراية المنصورة". وعندما جاء وقت الحرب قال الإعلام إننا أسقطنا عشرات الطائرات للعدو. وهللت الجماهير فرحا. ورحنا ندعو لربنا بالمزيد من النصر. وكنا علي يقين من أن اللَّه معنا ولا يمكن أن نهزم فنحن مسلمون وهم يهود وبعد يومين عرفنا أن طائراتنا هي التي سقطت وأن العدو علي بعد مائة كيلو من القاهرة. منهج العقل العربي لم يتغير كثيرًا. المرة الوحيدة التي كسبنا فيها حربا لم نقل قبلها أي شيء ولم يزف لنا الإعلام أنباء النصر أو حتي نية القتال وعندما عبر الجنود خط بارليف هتفوا عندئذ "اللَّه أكبر". لكن عندنا ريما تعود دائما لعادتها القديمة. وتتخيل أمانيها وقد تحققت قبل أن تتحقق باعتبار أن بين الحلم وتحقيقه شعرة. في مشهد هزلي في فيلم مصري يرقص أحد المجانين علي إيقاع صاجات في يديه قائلاً "أنا عندي شعرة ساعة تروح وساعة تيجي". والفرق بين الحلم وبين تحقيقه قد تكون شعرة. ونحن عندنا شعرة لكنها تجيء ولا تروح أبدا. ربنا يشفينا.