كان شيخا وقورا له لحية صغيرة ويرتدي ملابس الرهبان الكاثوليك لأنه أب كاثوليكي، وكان مسئولا عن تعليمنا بعض المبادئ الإنسانية العامة ونحن في المرحلة الإعدادية في مدرسة الراهبات.. وفي يوم مباراة الأهلي والزمالك كان للرجل موقف لا أنساه تعلمت منه - علي ما أتذكر - أول مبادئ الانتماء دون تعصب.. ولما كان حال الفتيات في هذا العمر هو مشاكسة المعلمين، فقد بدأت المناقشات بسؤال الأب عن أي فريق سيقوم بتشجيعه مساء ذلك اليوم، هل هو الأهلي أم الزمالك؟ ولما قال لهن إنه لن يشجع فريقا بعينه بل سيشجع اللعبة الجيدة، لم تصمت البنات.. بل أصرت واحدة منهن علي معرفة السبب ولمن من الفرق ينتمي الأب.. فقال لها بابتسامة هادئة إنه يشجع فريق البلدة التي يعيش فيها.. ولما كانوا ينقلون الآباء والراهبات كل عدة سنوات بين مدرسة هنا ومدرسة هناك، وكان عليه أن يغير مكان إقامته من بلد لبلد، فقد تعود علي تغيير الفريق الذي يشجعه تبعا للبلد الذي يقيم فيه، حتي وإن كان الفريق يلعب في الدرجة الثالثة.. والحقيقة أننا لم تعجبنا الإجابة في ذلك الوقت، وكان بيننا أهلاويات متعصبات، وأخريات زملكاويات متعصبات - إن جاز التعبير.. ولكن بعد بعض الوقت، وبعض النضج، اكتشفت أن الرجل كان علي حق.. وأنه ببساطة أيضا كان يعطينا درسا عمليا في المعني الحقيقي للانتماء.. فالمواطن المصري ينتمي لمصر ويشجع فريقها القومي عندما تكون المباراة دولية.. وأما في داخل بلده فهو يشجع فريق منطقته التي يقطن فيها لأنه ينتمي إليها.. وإلا من سيشجع تلك الفرق الصغيرة - كما قال الأب - إذا كان مواطنوها لا يشجعونها؟ أما التعصب لفرق الأندية الكبيرة فهو ليس انتماء.. فكم من مشجعي النادي الأهلي ينتمي للنادي الأهلي ولهم فيه عضوية؟ وكم من مشجعي الزمالك يقطنون حي الزمالك والأحياء المجاورة له ويذهبون إلي نادي الزمالك؟ المسألة ليست انتماء، بل صارت تعصاباً لفريق قوي يمكن أن يفوز بمسابقة كروية وبالتالي يشعر متعصبوه بالفوز الضمني لهم مع ذلك الفريق.. أما الانتماء فهو تشجيع الفريق قويا كان أو ضعيفا لحث لاعبيه علي تحقيق مستوي أفضل وللتفاعل الجماهيري الإيجابي مع ذلك الفريق.. فإذا كنت منتميا لبلدك، تحبه وتؤازره وتساعد أبناءه وتشهد له مهما كان.. ولكنك في حبك له تتفهم جيدا أن كل مواطن ينبغي أن يحب بلده كما تحب أنت بلدك.. وفي حبك له تعي جيدا أنه قد لا يكون البلد الأفضل ولا يكون الفريق المحلي الذي تنتمي له أنت بداخله هو الفريق الأفضل، ولكنك تؤازر بلدك وفريقك حتي يصير أفضل مما هو عليه.. التعصب شعور سلبي بغيض هدام، والانتماء شعور يسمو بالإنسان ويبني المجتمع.. ولن أنسي الأب الذي علمني الانتماء.. ولاتزال ابنتاي تتعلمان الانتماء اليوم في مدرستي نفسها علي يد معلمات فضليات إحداهن جزائرية زوجها مصري وأولادها بالدم مصريون، وبناتها بالتعليم: مصريات..