في المقال السابق أثبتُّ أن الحاكمية التشريعية في بلادنا قائمة بالإقرار وبالفعل وإن شابها تقصير ونقصان لظروف وأحوال منها ما هو متعلق بأوضاع داخلية ومنها ما هو متعلق بأوضاع عالمية وهذا التقصير لا يوجب نفي الإسلام عن الدولة ونظامها حيث إن القول بذلك غلو وتطرف يلزم منه البيان والتعليم وإلا فالعقوبة الشديدة لأن عواقب هذه العقيدة الباطلة (تكفير الدولة ونظامها) وخيمة لأنها السبيل الرئيسي لاستباحة الدماء وتشكيل العصابات العسكرية. ولم يكن هذه بالكلام المرسل وإنما بإسناد ثابت عن أئمة السلف حينما تعرضوا لمعني الآية (ومن لم يحكم بما أنزل الله..) وتبين للقراء أن الكفر المعني هنا ليس كفراً مخرجاً من الملة، وإنما هو كفر أصغر لأنه لا يعلم من أحوال حكامنا من جحد الله بعد علمه، وإذا كان هذا ردًا علي المتطرفين الدينيين فكذلك هو رد علي المتطرفين العلمانيين الذين يحاولون التشكيك في الأحكام الشرعية الثابتة، وعلي النظام وأهله أن يتنبهوا من هذين الفريقين المتطرفين سواء من رفع منهم شعار الشريعة ورفع الآخرون شعار العلمانية. وفي هذا المقال أدلل علي بعض أدبيات وأطروحات فكرية للمتطرفين الدينيين فهذا زعيم الفكر التكفيري في العصر الحديث والموجه الأول لغالبية الجماعات الدينية سواء الإخوان المسلمين أو المدرسة السلفية المزعومة بالإسكندرية وكذلك ملهم تنظيم القاعدة وإن تفاوتوا في الحركة والأدوار فيقول سيد قطب في كتابه "معالم في الطريق" ص 98: "إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم.. بهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً تدخل فيه المجتمعات الشيوعية.. تدخل فيه المجتمعات الوثنية... وتدخل فيه المجتمعات اليهودية والنصرانية". وأخيراً يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة ويقول في نفس الكتاب ص 137: "والمسألة في حقيقتها كفر وإيمان.. إن الناس ليسوا مسلمين كما يدعون وهم يحيون حياة الجاهلية"، ويقول في تعريفه للطاغوت: "الطاغوت صيغة من الطغيان تفيد كل ما يطغي علي الوعي ويجور علي الحق ويتجاوز الحدود التي رسمها الله للعباد ولا يكون له ضابط من العقيدة في الله ومن الشريعة التي يسنها الله ومنه كل منهج غير مستمد من الله وكل تصور أو وضع أو أدب أو تقليد لا يستمد من الله فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره ويؤمن بالله وحده ويستمد من الله وحده فقد نجا.." أ. ه فسيد قطب في كلامه السابق علي أصل وضعه في مؤلفاته واعتنقه كثير من الدعاة بل ومن العلماء ألا وهو أن لا إله إلا الله معناها لا حاكمية إلا الله، فما انحرف بهذا التعريف للتوحيد عن المعني الصحيح الذي هو ( لا معبود بحق إلا الله) فأصَّل أصولاً فاسدة وإن كان ظاهرها صحيحاً فقال ما قال، فجعل المسلمين قاطبة في نفس سلة الشيوعية والوثنية واليهودية والنصرانية وما ذاك عنده إلا لتخلف الحاكمية علي حد زعمه، ولم يعبأ بأصل الحاكمية ألا وهو توحيد الله وإفراده بالعبادة حيث يلهث المسلمون مطيعهم وعاصيهم بهذا الأصل ليل نهار، وترتفع المآذن وصيحات المؤذنين بالتهليل والتكبير والتوحيد وتقام شعائر الإسلام من صلاة وصيام وحج وعمرة. ومع كل ذلك فالمجتمع عند سيد قطب ومحبوه مجتمع كمجتمع أبي جهل وأبي لهب وماركس ولينين وفرعون وهامان. ثم تبع هذا غلواً في فهمه للطاغوت مخالفاً مفاهيم السلف في تعريفهم للطاغوت أنه هو الشيطان أو أنه كل ما عبد من دون الله، أما سيد فجعل أي مخالفة وأي تصور مخالف للدين إنما هو طاغوت. ولو طبقنا هذا التعريف الخاطئ الذي جاء به سيد قطب علي شخصية سيد قطب لصار سيد قطب طاغوتاً وأتباعه عباداً له ولكننا والحمد لله علي بينة من عقيدتنا ولا نقول بذلك، فإن سيد قطب نفسه خالف في مفاهيمه وتصوراته العقيدة والشريعة فعلي تعريفه يكون هو طاغوتاً. فمثلاً فسر سيد قطب كلمة التوحيد بغير ضابط من العقيدة ولا من الشريعة وكذلك فسر بعض صفات الرحمن بلا ضابط من عقيدة ولا شريعة وكذلك رتب مفهوما تجاه بعض أصحاب رسول الله بلا ضابط من عقيدة ولا من شريعة، وكذلك صنع في مفهومه للإيمان وخالف في ذلك العقيدة والشريعة فوفق تعريفه للطاغوت وترديد أتباعه لهذا التعريف فإن سيد قطب طاغوت وأتباعه قد عبدوا الطاغوت القطبي، والأمر علي خلاف ما يزعمون فإن الطاغوت هو الشيطان وهو كل ما عبد من دون الله وعلي ضوء هذا التعريف لا يكون حكام المسلمين وإن جاروا وقصروا في الدين طواغيت وكذلك سيد قطب وإن أخطأ لا يكون طاغوتا عندنا وإنما هو طاغوت بمفهومه هو ومفهوم أتباعه، فأيهما أولي الآن عند الكتاب المساكين الذين قد شمروا سواعد جدهم لمحاربة التطرف وكذلك يصنع بعض المنتسبين للهيئات الدعوية الرسمية حينما ناقشوا ومازالوا مظاهر شكلية كاللحية والثياب القصيرة والسواك.. إلخ، وغاب عنهم هذه التقعيدات المنهجية التي علي ضوئها يسير قطعان من السوائم الأغرار حيث يدفعهم الحماس إلي نتائج وخيمة وفتن متلاحقة. مازلت أكرر أنه كان الأولي بوزارة الأوقاف أن تطبع رسالة عالم أزهري له شأنه ومن خيرة ما كتب في فكر سيد قطب ألا وهو فضيلة الشيخ عبداللطيف السبكي رحمه الله حيث كتب رسالة يبين فيه ضلالات سيد قطب في كتابه الشهير "معالم في الطريق" فسماه رحمه الله "معالم في الطريق وهو دستور الإخوان المفسدين" وكان ذلك في سنة 1965م في مجلة منبر الإسلام العدد الثامن لسنة 23. وعلي نفس الدرب ونفس اللهجة التكفيرية سار دعاة المدرسة السلفية المزعومة بالإسكندرية حيث كتب أحد دعاتهم واصفًا سيد قطب بذلك البطل الذي ارتضع منذ طفولته معاني العزة والكرامة والأنفة وشرف النفس، والذي عاش حياته سيدًا وغادر الدنيا سيدًا رافعًا رأسه والذي عاش حياته قطبًا وغادرها قطبًا في الدعوة والجهاد، فالذي قال هذا الكلام هو طبيب بشري حصل علي ليسانس شريعة من الأزهر ويعتبر كبير المدرسة المزعومة بالإسكندرية، فإذا كان أمثال هؤلاء وغيرهم ينظرون إلي سيد قطب هذه النظرة التقديسية فكيف ستكون أفكارهم وتصوراتهم تجاه المجتمع ونظامه وهم يلهثون بمدح سيد قطب والإشادة به؟ فبدون ردع فكري للأطروحات القطبية التي يتزعمها الإخوان المسلمون وإخوانهم من الجماعات الأخري التي اتخذت من سيد قطب إمامًا وملهمًا. لذا فتجد كلامهم في الحاكمية وتعريف الطاغوت هو نفس كلام سيد قطب وتلك مسألتان في غاية من الأهمية لضرب القواعد الفكرية لهؤلاء المتطرفين بغض النظر عن شعاراتهم التي يرفعونها سواء رفعوا شعار التوحيد "وهو شعار محمود" أو شعار السنة "وهو كذلك محمود" أو شعار السلفية "وهو كذلك محمود" ولكن يراد بهذه الشعارات المحمودة باطلا كما صنع الخوارج في الماضي حينما قالوا "إن الحكم إلا لله.." الآية، فلا شك أن الحكم لله، قول حق ولكنه يراد به زعزعة الأمن وسفك الدماء وحمل السلاح، فيخطئ كثير من الكتاب حينما يوجه ذمه ونقضه إلي السلفية أو إلي السنة معتقدين أن ممارسات هذه التيارات الفكرية والعملية إنما هي تعبير عن مضمون هذه الشعارات المرفوعة وبالتالي يفسدون أكثر مما يصلحون ويؤججون نار الفتنة ويزيدون من مساحة التطرف والمتطرفين، فالتوحيد في معناه الشرعي إنما هو إفراد الله بالعبادة، والسلفية هي منهاج لفهم الكتاب والسنة علي وفق فهم الصحابة ومن تبعهم من التابعين وتابعي التابعين وعلي وجه الخصوص في العقائد والعبادات، أما السنة فهي ما صح عن رسول الله صلي الله علي وسلم بالإسناد المتصل من العدل الضابط إلي منتهاه بلا شذوذ ولا علة، والقدح في السنة قدح في الدين ومن خلال السنة والسلفية أدركنا مفاسد وانحرافات هذه الجماعات فهل فهم الخطاب؟!