تقول الحكمة: "لكل مقام مقال" وعلي أساسها فإن الجد جد.. والهزل هزل.. وأسوأ ما يفسد الجد أن يخلط بالهزل.. وأسخف ما يفسد الهزل أن يكون جاداً. الصورة لدينا مختلفة والحكمة مقلوبة والأوضاع "معوجة" وبيننا من يخلط الجد بالهزل دون أن يدري أنه بذلك يضيع الجد ويفرض علينا الهزل "السياسي" في غير موضعه. وجهت مراراً هنا انتقادات حادة إلي الحزب الوطني وحكومة الدكتور أحمد نظيف، وغيري كثيرون يرصدون أخطاء الحزب وحكومته في مجالات مختلفة ويفندون تصريحات رموزه وكلام المسئولين، وحتي في النقاش حول مستقبل البلاد فإن رؤي مختلفة طرحت خلال الأسابيع الماضية للنقاش العام عبر أحزاب أو قوي سياسية أو شخصيات عامة، كما تحمس البعض لشخصيات مصرية بارزة رأوا أنها تصلح للترشيح للانتخابات الرئاسية المقررة بعد سنتين، في حين رأي "الوطني" أن الأمر مازال مبكراً لإعلان مرشحه. فيما أعلن بعض رموزه أنه من غير اللائق الإلحاح في طلب تحديد مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية "لأن البلد فيه رئيس"، كل هذا منطقي وطبيعي، وقابل للأخذ والرد، كما أن الاعتراض علي وجهة نظر الوطني أيضاً منطقي وحق لأي مواطن يري أن الظروف المحلية والإقليمية والدولية تغيرت عن عصور سابقة وأن من حق الناس أن يعرفوا ملامح المستقبل حتي من دون تفاصيله، خصوصاً أن ردود رموز الوطني علي أسئلة تتعلق بانطباعاتهم علي الاقتراحات ذات العلاقة بمستقبل البلاد (فترة انتقالية أو مجلس حكماء أو أمناء أو غيره). وكذلك أسماء تصلح للترشيح (البرادعي أو زويل أو عمرو موسي) صبت في اتجاه الشكل وتركزت علي الإشادة بالمناخ الذي أتاحه الحزب الوطني نفسه والذي سمح بتداول أفكار كتلك، دون أن يبدي الحزب رأيه في المضمون أي رفض تلك الاقترحات صراحة للمقترحات أو تفنيدها أو طرح رأي محدد في أصحاب الأسماء التي تداولتها وسائل إعلام كمرشحين محتملين للانتخابات الرئاسية. يأتي في هذا السياق أيضاً المطالبة بإجراء تعديلات دستورية أخري تخفف القيود علي عملية الترشيح وتتيح لكل من يجد في نفسه الصلاحية لتولي هذا المنصب الرفيع فرصة خوض غمار الانتخابات، وكذلك إجراء تعديلات قانونية تضمن سلام الانتخابات وتكفل ظروفاً تنافسية عادلة بين كل المرشحين، وأعتقد، ويشاركني كثيرون؛ أن ذلك الجدل الجاد سيستمر حتي موعد الانتخابات الرئاسية وسيبلغ الذروة أثناء وبعد الانتخابات البرلمانية المقبلة المقررة بعد سنة من الآن. هذا هو الجد الذي يستحق الجدل والنقاش، والأخذ والرد، والقول والفعل، أما الهزل المطلوب أحياناً في مواضيع وسياقات أخري ولا ضرر منه في بعض الأحيان إذا ظل هزلاً لكنه لا يصلح في كل الأوقات فيتعلق ب"الكليبات" التي انتشرت أخيراً علي شبكة الانترنت خصوصاً علي موقعي "يوتيوب" و"فيس بوك" وكلها تأتي في مجال "التريقة" أو "السخرية" سواء من أفعال الحزب الوطني أو من شخصياته أو رموزه، إذ ساهمت في "تسخيف" قضية لا تحتمل "السخافة" وهبطت بالنقاش الجاد حول مستقبل البلاد إلي مستوي لا يجر البلاد إلا إلي الوراء. شخصياً أري أن نقد الحزب والهجوم علي الحكومة واجب لكل من يري ما يستحق أن ينقد أو يهاجم حتي لو كان النقد حاداً جداً والهجوم كاسحاً جداً شريطة أن يكون موضوعياً وحضارياً وجاداً لا يضيع حق الناقد أو المهاجم أو المعارض. تخطي الأمر ما هو معروف في السلوك الاجتماعي من أن الناس قد تعبر عن ضيقها أو حتي يأسها وعن غضبها أو حتي نقمتها من السلطة الحاكمة بالنكتة أو السخرية إلي التفنن في الهزل والسخرية علي الأسلوب الذي يتحدث به هذا أو الطريقة التي يمشي بها ذاك، وهي أمور لا علاقة لها بمستقبل البلاد. قد يري البعض أن ذلك السلوك يعبر عن حالة ضيق يشعر بها القائمون علي تلك "الكليبات" وصانعوها وأنهم اختاروا الطريقة التي يعبرون بها عن مواقفهم وأن الإقبال علي مشاهدة تلك المواد وتداولها كبير وأن الضحك أفضل من البكاء. لكن الواقع يشير إلي أن قضايا: الحكم والانتخابات والأغلبية والمعارضة وحاضر ومستقبل البلد لا يحتمل هكذا هزل، وأن النكتة السياسية التي انتشرت في عقود سابقة حوت دائماً مضامين ولو كانت بسيطة إلا أنها عبرت عن معانٍ عميقة ليست كتلك المشاهد التي تأتي عادة علي موسيقي وإيقاعات راقصة قد نضحك عليها، لكنها لا تعالج فشلاً أو تداوي جرحاً أو تصنع مستقبلاً.