في الثالث من نوفمبر سنة 1954، رحل الدكتور محمود عزمي، المثقف الرائد والسياسي والصحفي القدير، وأحد الذين شاركوا في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والداعية المخلص للعلم والحرية والتقدم والتنوير. أغلب الظن أن كثيرًا من المعاصرين لا يعرفون الرائد الجليل، وربما لا يعرفون عنه إلا بعض القشور، مثل أصداء المعركة الشهيرة التي دارت حول غطاء رأس المصريين: القبعة أم الطربوش؟! في العدد الأول من مجلة الجديد، فبرابر 1925، كتب محمود عزمي مطالبا بأن يكون التعليم العام مدنيا بلا ارتباط ديني، مؤكدًا أن مطلبه هذا لا يعني معارضة للدين أو انتقاصا من شأنه، بل لأن حرية الفكر وتربية العقول في حاجة إلي صلاحيات قوامها التعددية البعيدة عن القداسة، وعلي حد تعبيره: كل ما نطالب به وندعو إليه هو أن يكون التعليم العام، والذي تهيمن عليه الدولة، ويُصرف عليه من خزانة الدولة، غير خاضع لغير اعتبار القومية، وغير شديد الاتصال بنزعة دينية خاصة. وفي العدد الثاني من المجلة الجديدة، ديسمبر 1929، وهي المجلة التي نشر فيها نجيب محفوظ مقالاته الأولي، كتب محمود عزمي مقالا بالغ الأهمية: كيف آمنت بالعلم وحده؟، وفيه يؤكد أن للعلم ميدانه وللدين ميدانه وجهود العقلاء يجب أن تتوجه في سبيل الفصل بين الميدانين حتي لا يعرقل تدخلهما فضل الدين وفضل العلم معا. ومن ناحية أخري، كان محمود عزمي واعيا بالمخاطر الكبيرة التي يمكن أن تترتب علي الخلط بين الدين والسياسة، وعند الإعداد لصياغة دستور سنة 1923، حذر لجنة الثلاثين من التورط في إضفاء صبغة دينية علي الدولة، فمثل هذا التصرف سيجر علي البلاد ارتباكا قد ينقلب إلي شر مستطير! في ذكري رحيل محمود عزمي، لابد من التأكد أن التاريخ القريب للثقافة المصرية يتضمن صفحات تحتاج إلي تسليط الضوء، فالهموم القديمة، مازلت قائمة، والقضايا المطروحة قبل نصف قرن مازالت مطروحة. لا مهرب من تحرير العقل وترسيخ الإيمان بالعلم، والمستقبل المنشود رهين بهذا وحده.