في غمرة سعادتي بهذا النضج في الأداء للفنان المحترم نور الشريف من خلال مسلسله الذي عرض خلال شهر رمضان الماضي وأعني به الرحايا حيث قدم نور في هذا العمل نموذجًا رائعًا لأداء سلس تلقائي وطبيعي.. هزنا جميعًا - وبلا أي تكلف أو افتعال - بمشاعره الإنسانية لشخصية من لحم ودم... ليست كما نري في بعض الأعمال الدرامية من شخصيات تبدو صناعية نمطية، تمثل الخير أو الشر... إما الأبيض أو الأسود... وهذا ليس حالنا نحن البشر، فكل منا داخله درجات.. يحب ويكره.. يتسامح أحيانًا، وينتقم أحيانًا أخري.. يحمل في داخله مشاعر مختلفة بعضها متناقض رغم أنه إنسان سوي. وللأسف فوجئت أنا وغيري من ملايين المشاهدين الذين استمتعوا بهذا العمل بما قامت به إحدي الصحف التي تصدر بترخيص أجنبي - رغم أنها مصرية التمويل وهيئة التحرير وتوزع في السوق المصري مستهدفة جمهورها من المصريين الذين قد يشترون مثل هذه الصحف - من نشر خبر مشكوك في صحته عن هذا الفنان - المعروف عند الكثيرين منا بسمعته الطيبة وثقافته الرفيعة ومواقفه الوطنية الشريفة - خبر للأسف الشديد يمس اعتباره وشرفه وكرامته كإنسان قبل أن يكون فنانًا. وقد صدمني هذا الخبر - كما صدم الكثيرين - ولكنه بالنسبة لي كأستاذة صحافة ومتخصصة في قضايا حرية الصحافة وتشريعاتها وأخلاقياتها، كان له رد فعل أكثر قسوة... إذ زاد من إحباطي وإحساسي بأننا (كأننا نؤذن في مالطة) كما يقول المثل المعروف... فعلي مدي سنوات وسنوات استغرقت هذه القضايا جانبًا كبيرًا من وقتي.. ومساحة لا يستهان بها من اهتماماتي... من خلال بحوث قمت بها أو أشرفت عليها لطلابي أو ندوات وحلقات نقاشية وورش عمل حضرتها وشاركت فيها بالرأي أو كتب قدمتها أو محاضرات قمت بتدريسها لطلابي جيلاً وراء جيل منذ أن بدأت تدريس هذا المقرر تشريعات الإعلام وأخلاقياته عام 1982 بعد وفاة الفقيه القانوني المعروف أستاذي الدكتور جمال الدين العطيفي الذي تتلمذت علي يديه في الكلية... والذي تشرفت بأن يكون مناقشًا لأطروحتي للماجستير وكذلك الدكتوراه واللتين دارتا حول حرية الرأي وحرية الصحافة في مصر... وكان مهمومًا ومشغولاً بهذه القضايا من خلال مقالاته الكثيرة في صحيفة الأهرام والتي نشرها منذ خمسينيات القرن الماضي وحتي ثمانينياته أكثر من ثلاثين عامًا.. والرجل يتحدث عن حرية الصحافة ومسئولياتها، هو وغيره كثيرون ممن تبنوا هذه القضية ومثلت بالنسبة لهم هما حقيقيًا ومنهم علي سبيل المثال لا الحصر الكاتب الراحل ونقيب الصحفيين عدة مرات كامل زهيري والكاتب الراحل أيضًا صلاح الدين حافظ. ماذا حدث؟ هل استطاعت هذه الكتابات المسئولة أن توقف هذا السيل الذي لا يتوقف من ممارسات صحفية غير مسئولة؟ هل استطاعت أن تضع حدا لهذا العدوان اليومي علي كرامة البشر وحقهم الإنساني في الاحترام وفي حماية حياتهم الخاصة وعدم التشهير بهم أو الافتراء عليهم؟ هل استطعنا - رغم ما بذلناه من جهد واصلنا به جهد هؤلاء الراحلين - أن نجعل الصحفيين يؤمنون بأن حرية الصحافة لا تعني الفوضي... وبأن الكلمة أمانة ومسئولية سوف يحاسب عليها الصحفي ليس فقط أمام القانون أو نقابته... بل قبل كل شيء أمام الله... وأن هناك شيئًا مهما للغاية لابد أن يكون موجودًا وحيا داخل كل منا اسمه الضمير«؟ هل نجحنا في أن نقنع هؤلاء الذين يشترون مثل هذا الصحف التي ترتكب هذه الممارسات غير الأخلاقية والتي لا تتفق بأي شكل من الأشكال مع المعايير المهنية المتعارف عليها لهذه المهنة السامية: مهنة الصحافة.. أن نقنعهم بأن يدفعوا مثل هذه الصحف إلي نهايتها المحتومة وأعني أن تتوقف عن الصدور.. أم أن هذه الصحف لها مصادر أخري من التمويل والدعم تسمح لها باستمرار الصدور حتي دون أن يكون لها قراء أو توزيع أو إعلانات؟! لقد تساءل الكثيرون -كما هي العادة بعد كل واقعة أو حادثة من هذا النوع ترتكبها إحدي هذه الصحف - أين قانون الصحافة وأين نقابة الصحفيين؟ ماذا عن ميثاق الشرف الصحي؟ ووجه لي بعض الناس بحكم كوني عميدة كلية الإعلام سؤالا قد يبدو بسيطا ولكنه عميق: ما هو دور كلية الإعلام؟ هل لا تقومون بتدريس مواثيق الشرف وأخلاقيات المهنة لطلابكم؟ وللأسف فإن البعض قد يتخيل أن كل من يعملون في الصحافة هم بالضرورة من المتخرجين المؤهلين إعلاميا أو المتخصصين أكاديميا في الإعلام والصحافة.. وهذا غير صحيح طبعا.. وفي الوقت نفسه -وحتي أكون موضوعية- فإن بعض من درسوا الصحافة قد يرتكبون بعض هذه الممارسات، ولكنهم لحسن الحظ قلة. ورغم أن الأمور واضحة ومحددة.. والواجبات والمسئوليات المهنية والأخلاقية للصحفيين منصوص عليها بدقة سواء في الدستور المصري الصادر عام 1791 وتعديلاته، أو في قانون تنظيم الصحافة رقم 69 لسنة 6991« وقانون نقابة الصحفيين الصادر عام 0791، وقانون العقوبات المصري في الكتاب الخاص بجرائم النشر، وكذلك في ميثاق الشرف الصحفي الذي صدر عن المجلس الأعلي للصحافة عام 8991.. إلا أنه رغم ذلك لا يتم الالتزام بذلك في بعض الأحيان.. إما لأن البعض ممن يعملون في بعض الصحف -من غير المؤهلين صحفيا- لم يقرأوا مثل هذه النصوص، أو لأن آخرين لديهم دوافع ومنافع خاصة لمثل هذا النشر المسيء رغم معرفتهم بأن هذا مجرم قانونا ومهنيا.. أو لأن مثل هذه الممارسات المثيرة والتي تشبه جلسات النميمة والثرثرة والقيل والقال تمثل وسيلة لجذب بعض القراء من المراهقين أو غيرهم ممن يبحثون عن وسيلة للتسلية وتضييع وقتهم وتبادل الحكاوي والقصص كمصدر لحوار تافه.. وتزيد قيمة ذلك لديهم عندما يكون أحد أطراف هذه القصة أو الحكاية شخصا مشهورا أو معروفا. والقانون واضح كما قلت في هذا الشأن، فالأخبار الكاذبة مجرمة، والكذب كمفهوم هو نشر وقائع أو أحداث مخالفة للحقيقة كليا أو جزئيا عن طريق الحذف أو الإضافة، وبعض الأخبار الكاذبة هي أخبار مغرضة إذ قد تنطوي علي بعض الحقيقة ولكن يتم تحريفها أو روايتها بأسلوب مثير مبالغ فيه. وقانون العقوبات المصري يدين ويجرم العدوان علي اعتبار البشر وكرامتهم، ليس فقط المشهورين أو الشخصيات العامة، بل أي شخص أو مواطن عادي.. فهذا حق من حقوق الإنسان.. من حقنا جميعا بصرف النظر عن جنسنا أو وضعنا الاجتماعي أو الاقتصادي أن يكون لنا اعتبارنا بين الآخرين وفق المعايير الموضوعية المستقرة في المجتمع.. من حقنا المحافظة علي كرامتنا.. ومن واجب الصحف والصحفيين -أيا كان من يملكها أو يديرها الدولة أو الأحزاب أو الأفراد- أن يلتزموا عند النشر بذلك بحيث لا يمثل النشر أي احتقار لشخص أو إساءة لسمعته و مساس بشرفه واحترامه بين الناس. وهذا لا يتعارض طبعا مع حق نشر الأخبار... بشرط أن تكون أخبارًا لا يحظر القانون نشرها.. وبشرط أيضا أن تكون أخبارا تراعي الحقيقة وأن يتم التأكد من صدقها ومن مصدرها قبل التسرع في نشرها وأن يكون هذا النشر مستهدفا المصلحة العامة لا التشهير أو الانتقام. وميثاق الشرف الصحفي في مصر الذي صدر عام 1998 ينطلق من عدة اعتبارات مهمة منها: 1- الإيمان بأهمية تعزيز حرية الصحافة والرأي والتعبير والنشر وصيانتها ضمانا لدفع المسار الديمقراطي . 2- الاتساق مع مبادئ الدستور ونصوصه التي تكفل للصحافة والصحفيين أداء رسالتهم بحرية وفي استقلال. 3- الارتباط بالأهداف والحقوق والالتزامات السامية لرسالة الصحافة التي تضمنتها المواثيق الدولية، وعلي وجه الخصوص المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. 4- الاعتراف بحق القارئ في صحافة موضوعية تعكس بأمانة وصدق نبض الواقع وتعدد الآراء وتصون حق كل مواطن في التنقيب علي ما ينشره الصحفي وعدم استغلاله في التشهير أو الابتزاز أو الافتراء أو الإساءة الشخصية. ولهذا فالميثاق يتضمن العديد من الإلتزامات للصحفيين منها: 1- التزام الصحفي فيما ينشره بمقتضيات الشرف والأمانة والصدق بما يحفظ للمجتمع مثله وقيمة، وبما لا ينتهك حقا من حقوق المواطنين أو يمس إحدي حرياتهم. 2- الالتزام بعدم نشر الوقائع مشوهة أو مبتورة أو مختلقة. 3- عدم استخدام وسائل النشر في اتهام المواطنين بغير سند أو في استغلال حياتهم الخاصة للتشهير بهم أو تشويه سمعتهم أو تحقيق منافع شخصية من أي نوع. هذا الميثاق وغيره يستهدف حماية القراء من أي استخدام غير مسئول للصحافة، وأيضا حماية الصحفيين انفسهم من أن يتحولوا بأي شكل من الأشكال إلي قوة لا تقدر مسئولياتها والتي تتطلب الالتزام بالدقة والصدق والصحفي ذو الضمير الحي عليه أن يدقق ويفحص باستمرار كل ما يصل إليه من معلومات، وأن يمتنع عند الضرورة عن نشر أية أنباء مشكوك في صدقها أو صحتها خاصة إذا كانت تتعلق بأمور شخصية يمكن أن تمس سمعة شخص ما.. ولا يجوز أن ينشر - تحت دعاوي حرية الصحافة أو السبق الصحفي أو غير ذلك - ما يمكن أن يسيء إلي سمعة مواطن - مشهور أو عادي - أو كرامته دون أن تكون هناك أدلة واضحة علي أن هذا الإنسان قد ارتكب فعلا يضر بمصلحة المجتمع. ولكن يظل السؤال المطروح والذي قد يبدو ساذجًا: وهل كل من يعملون في الصحافة هم صحفيون فعلا بالمعني المهني ؟!