إن الكلام عن السخرية يحتاج أولا إلي تحديد مفهومها، فمن حيث المفهوم اللغوي، فإن السخرية هي: (الازدراء والاحتقار)، ومن حيث المصطلح: (هي التعبير الذي لا يقصد لفظه، وإنما يقصد مفهومه) أو هي: (التعبير الذي يقصد به عكس مفهومه) وهذا التعبير لا يقصد به التعبير اللفظي فقط، بل يشمل كل وسائل التعبير، كما سنذكر بعد ذلك. وللسخرية ثلاثة أطراف، الطرف الأول: الساخر، أو: منتج السخرية، ولابد أن تتوفر عدة مواصفات، مثل: (الذكاء، وسرعة البديهة، وقوة الملاحظة) وإقدامه علي السخرية تكون له دوافع مختلفة، بعضها خاص، وبعضها عام، فمن الدوافع الخاصة: خلافه مع شخص بعينه، أو كراهيته لسلوك شخص بعينه، أما الدوافع العامة، فقد تكون الحالة التي يكون عليها المجتمع من فساد وانحلال، أو وقوعه تحت سيطرة سلطة مستبدة ظالمة، وقد تكون لشخصية تمثل نموذجا عاما لأمثاله ممن يمارسون سطوتهم المالية، أو السياسية، أو الاجتماعية، أو الدينية. وهذه الشخصية المسخور منها، تمثل الطرف الثاني في ثلاثية (السخرية)، أما الطرف الثالث، فهو السخرية ذاتها، وتتميز بالإيجاز وقدرتها علي توصيل مستهدفها إلي متلقيها، وهي: (بنية مفتوحة) دلالتها احتمالية، فكل متلق يفهم مقصودها علي نحو ثقافته، وموقفه من الساخر والمسخور منه، فعندما أقول لشخص: (ادخل السجن أيها الأمير) قد يكون المقصود السخرية منه، وأن مكانته الرفيعة لم تحل دون سجنه، وقد يكون المفهوم مواساة الرجل في هذا الموقف، وأن سجنه لن ينتقص من مكانته الرفيعة، والسياق هو الذي يحدد الهدف الدلالي المقصود. أما الهدف من السخرية، فقد يكون الانتقام من شخص بعينه، وتعريضه للازدراء، أو من نظام معين يعاني الساخر منه، أو من مجتمع لا يرضي الساخر عنه، ويكون المقصود النهائي رد هذا الشخص، أو ذاك النظام، أو ذلك المجتمع إلي الطريق الصحيح، أو التنبيه علي أشكال القصور، أو أنواع الفساد والمظالم. أما أدوات السخرية، فهي متنوعة: قد تكون الأداة (اللغة) حيث تتضمن العبارة ألفاظا معينة تشير إلي هذه السخرية، مثل: (السخرية - الاستهزاء - التهكم - التندر - احتقار - الضحك)، وفي هذا السياق تستخدم اللغة لإنتاج السخرية باللعب بالكلمات، واستخدامها في عكس دلالتها الأصلية كأن تطلق علي شخص قصير اسم (نخلة)، وقد يكون هذا اللعب اللغوي بالدخول في منطقة الإبهام المقصود، كأن أقول لرجل يعاني من (العرج) أتمني أن تكون ساقاك متماثلتين، فقد يعني ذلك أن تكون المصابة سليمة كالأخري، وقد يعني أن تتحول السليمة إلي مصابة. وإذا كانت الأداة فيما سبق هي اللغة، فإن هناك أدوات أخري لا تقل عنها أهمية، من ذلك الأداة (الحركية) إذ يلجأ الساخر إلي توظيف إشاراته الحركية باليد، أو الحاجب، أو الفم، أو بالمنكب، أو بالعين، وقديما سما الجاحظ هذه الأداة (النصبة)، ورأي أنها تنوب عن اللفظ والخط، وهذه الإشارات لها أهمية قد تفوق أهمية اللغة، لأن المجتمع قد استقر علي توظيفها في دلالات محددة. ولابد أن نشير إلي أن (فن السخرية) فن لصيق بالثقافة العربية منذ بواكيرها، لكنها يزدهر في أزمنة الأزمات والهزائم والقهر والاستبداد، وقد وصلتنا البدايات الأولي لهذا الفن فيما قدمه ابن المقفع في (كليلة ودمنة) والجاحظ في (البخلاء) و(الرسائل)، وعلي مستوي الشعراء، كان (الحطيئة) سيدا في هذا الفن، ثم أبو العلاء المعري. ومطلع القرن العشرين تكاثر الظرفاء، ومعهم تعاظمت السخرية، ولاقت رواجا هائلا في المجتمع، ومن أعلام هذا الفن (الشيخ عبد العزيز البشري ذ الشيخ عبد الحميد قطامش ذ وحافظ إبراهيم) ثم تلاهم جيل آخر، من أعلامه: (فكري أباظة ذ كامل الشناوي - عبد الحميد الديب)، ثم جاء جيل: (محمود السعدني - مصطفي حسين - أحمد رجب).