هل يجوز الحديث عن مقاربة أمريكية جديدة وشاملة لتحديات القرن الواحد والعشرين تقوم علي الاعتراف بوجود قوي أخري في العالم لا يمكن تجاهلها؟ من الواضح أن الخطوة التي أقدم عليها الرئيس باراك أوباما والقاضية بإلغاء مشروع الدرع الصاروخية التي كانت الولاياتالمتحدة تنوي إقامتها في بولندا وتشيكيا تعكس رغبة في رسم مقاربة مختلفة تأخذ في الأعتبار أن أمريكا لا تزال القوة العظمي الوحيدة في العالم، لكنها ليست قادرة علي مواجهة مشاكل العالم وحدها. بعد عشرين عاما علي سقوط جدار برلين وما يقارب ثمانية عشر عاما علي انهيار الاتحاد السوفيتي، أدخل باراك أوباما العالم في مرحلة جديدة تقوم علي الإقرار بأن الحرب الباردة لم تنته بانتصار أمريكي ساحق يسمح للولايات المتحدة بأن تتخذ القرار الذي تريده من دون عودة إلي الآخرين، خصوصا روسيا. لا تزال روسيا قادرة علي لعب أدوار معرقلة في أنحاء مختلفة من العالم، بما في ذلك في القارة الأمريكية نفسها حيث، في فنزويلا، نظام شرس يسعي إلي المعاكسة والحصول علي أسلحة متطورة وإقامة تحالفات مع ما تسميه واشنطن "الدول المارقة"، علي رأسها إيران. يبدو من خلال القرار القاضي بإلغاء الدرع الصاروخية أن أوباما يعيد النظر جذريا في سياسات سلفه جورج بوش الابن. لم يعد صحيحا أن العالم يدار من واشنطن ولم يعد صحيحا أن أمريكا قادرة علي القيام بما تشاء وليس صحيحا أن في استطاعتها جرّ الآخرين خلفها في مغامرات غير محسوبة مثل الحرب علي العراق. الأهم من ذلك كله، أن أوباما بات يدرك أن ليس في استطاعة الولاياتالمتحدة التعاطي بمفردها مع البرنامج النووي الإيراني وأن لا تطويق حقيقيا لإيران وسياستها الهادفة إلي تكريس نفسها قوة اقليمية يحسب لها ألف حساب في المنطقة الممتدة من أفغانستان إلي موريتانيا من دون تعاون روسيا والصين إلي حد ما. الوقت وحده كفيل بمعرفة ما إذا كان الرئيس الأمريكي علي حق أم لا وما إذا كانت نظرته إلي العالم صائبة. الشيء الوحيد الأكيد أن روسيا، التي كانت مستاءة من الدرع الصاروخية في تشيكيا وبولندا ومن المحاولات الأمريكية الساعية إلي توسيع حلف شمال الأطلسي عن طريق جعله يضم بلدان تقع علي حدودها مثل أوكرانيا وجورجيا، لم تخف ارتياحها إلي السياسة الأمريكيةالجديدة. وذهب رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين إلي القول إن القرار الأمريكي "صائب وشجاع". في الواقع، لم يكن هناك ما يدعو في أي وقت من الأوقات إلي التعامل مع روسيا بطريقة تشعرها بأنها مجرد دولة ضعيفة غير قادرة حتي علي أن يكون لديها نفوذ في جورجيا، إحدي جمهوريات الأتحاد السوفيتي قبل انهياره، ومسقط رأس ستالين! السؤال الآن. هل رهان أوباما علي روسيا في محله؟ الجواب أنه لم يكن قادرا سوي علي المجازفة والإقدام علي هذا الرهان. من دون روسيا لا يمكن تطويق إيران. وإلي إشعار آخر، ليس في نية الولاياتالمتحدة الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع "الجمهورية الإسلامية" بسبب برنامجها النووي. بكلام أوضح، أن أمريكا- أوباما لا تبدو مستعدة لأي مغامرة عسكرية تدفع إسرائيل في اتجاهها من دون استنفاد الخيارات الأخري في مقدمتها التنسيق مع الأوروبيين والروس من أجل تطويق إيران وإقناعها بأنها ليست قوة عظمي وأنه يجب التفاوض معها في شأن كل صغيرة وكبيرة في الشرق الأوسط، بدءا بأمن الخليج وطرق النفط وصولا إلي تشكيل الحكومة اللبنانية... ليست إيران المكان الوحيد الذي يمكن لروسيا أن تساعد فيه الأمريكيين. هناك بالطبع الهاجس الأفغاني الذي تحول إلي كابوس يؤرق الإدارة الأمريكية ودول حلف شمال الأطلسي، خصوصا بريطانيا. هناك حاجة واضحة إلي زيادة كبيرة في عدد القوات الأمريكية والأطلسية في أفغانستان في حال كان مطلوبا التعاطي بشكل جدي مع "طالبان". في غياب القدرة علي إرسال مزيد من القوات إلي أفغانستان، تعتبر روسيا الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك خبرة واسعة في الشئون الأفغانية نظرا إلي أنه سبق لها التورط في حرب طويلة خاسرة في هذا البلد عندما كانت لا تزال جزءا من الاتحاد السوفيتي. العالم كله، علي رأسه أمريكا، في حاجة إلي التعاون الروسي في أفغانستان. مثل هذا التعاون قد لا يكون عسكريا بالضرورة. لكن موسكو قادرة علي توفير تسهيلات لوجيستية للجيوش الأطلسية وعلي مدها بمعلومات ثمينة هي في أمسّ الحاجة إليها. مرة أخري، لا مفر من التساؤل هل الرهان الروسي لأوباما في محله؟ الثابت أنه سبق الإقدام علي الخطوة المتمثلة في وضع الدرع الصاروخية علي الرف محادثات طويلة علي اعلي المستويات بين موسكووواشنطن شارك فيها الرئيس الأمريكي نفسه ونائب الرئيس جو بايدن. ما لم يقله الأمريكيون عن النظرة إلي مستقبل العلاقات مع موسكو، يقوله الأمين العام لحلف شمال الأطلسي أندرس فوغ راسموسن. قال راسموسن في بروكسيل بعيد الإعلان عن إلغاء مشروع الدرع الصاروخية :"علينا، في وقت مناسب، استطلاع إمكان الربط بين الأنظمة الصاروخية لكل من روسيا والأطلسي والولاياتالمتحدة". ما كان لمثل هذا الكلام أن يصدر عن الأمين العام لحلف الأطلسي من دون ضوء أخضر أمريكي وأوروبي. مثل هذا الكلام يؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الدولية تقوم علي وجود تحديات مشتركة تجمع بين روسيا وحلف الأطلسي. إيران ببرنامجها النووي وأفغانستان في طليعة هذه التحديات الكثيرة...