أوشك شهر رمضان علي الرحيل، وقد غلبت علي المساجلات فيه الخوف من انفلونزا الخنازير، وحال المدارس، وإرتفاع تلال القمامة في أرقي المناطق الحضرية. ومن ضمن القضايا التي تناولتها الصحافة هي "تعقب المفطرين في شهر رمضان"، علي خلفية حملة أمنية تعقبت المفطرين في أسوان. لا أريد التوقف أمام القضية ذاتها، ولكن في الخلفية التي حكمت النقاش حولها، وهي التعلل بوجود قانون يحظر الإفطار في نهار شهر رمضان. في رأيي هذه هي المشكلة، وهي وجود "قانون" أو نص في "قانون" يعاقب مفطرا في شهر الصيام. فمن حيث المبدأ، لا أحبذ أن يخرج شخص عن شعور عام سائد. فإذا كانت الحالة العامة في المجتمع في شهر من شهور السنة هي الصيام، فليس لائقا اجتماعيا أن يخرج الناس يجاهرون بعكس ذلك. تماما مثل أن يكون مجتمع في حالة تعبئة إنسانية ووجدانية إثر فجيعة قومية، فلا يصح أن تسوده مظاهر فرح مبالغ فيها. بالطبع من حق كل شخص أن يفعل ما يحلو له، ولكن هذه الحرية مقيدة بشرط مهم هو "الذوق العام". وبرغم ذلك، فإنني لا أحبذ تعقب مفطر يجاهر بإفطاره في شهر رمضان بالقانون، ليس لأنني أوافقه علي تصرفه، ولكن لأنني لا أود أن يكون "القانون" هو مصدر الإلزام الاجتماعي المحوري، والوحيد، بمعني أننا عندما نريد أن نلزم المجتمع بشيء لا مجال أمامنا سوي سن تشريعات، وإدخال تعديلات علي تشريعات، ثم نشكو بعد ذلك من غابة التشريعات، ونضع عبئًا علي الجهات التنفيذية التي تقوم بمهام تنفيذ القانون، ونوجه لها اللوم، في حين أن القضية تكمن في وجود نص قانوني، وعندما لا ينفذ القانون، نشكو من عدم فاعلية القوانين. دائرة مفرغة يصعب الخروج منها. القضية الحقيقية أن في كل مجتمع نظامًا اجتماعيا، يحتوي علي حوافز وكوابح. وتعتمد حيوية المجتمع علي فعالية النظام الاجتماعي علي النحو الذي يجعل أفراد المجتمع في إتساق مع أنفسهم. أما إذا نحينا جانبا الكوابح والمحفزات الأخلاقية والاجتماعية، واعتمدنا فقط علي القانون، فإن المجتمع سوف يعاني من فائض في الإجبار القانوني، وعجز في الضبط الاجتماعي. دعنا نتخيل مجتمعا يعتمد علي القانون في تحقيق كل أوجه الضبط الاجتماعي، فماذا سوف ينتج هذا؟ أولا: سيدعم اتجاه الناس إلي ثقافة التحايل، وأعني نموًا في القدرة الالتفافية علي القانون نصا، دون تطبيق روح القانون، فضلا عن انتفاء الحافز لتطبيق القانون. ثانيا: سيثبط ميكانزمات الضبط الاجتماعي التي تجد جذورها في ثقافة المجتمع، أخلاق الناس، القيم الاجتماعية، والروح الإنسانية للشعب المصري، مشاعر التعاطف، ووجدان التعاضد بين الناس. ثالثا: سوف يتسبب في مزيد من التدهور في حالة احترام القانون. انظر إلي قانون المرور. إذا لم يجد كثير من أصحاب السيارات شرطي المرور منتبها فقد يكسرون القانون. حتي هذه اللحظة، لم يتحول احترام قواعد المرور في الشارع إلي ثقافة تتجذر في وجدان وعقل المصريين. نريد مجتمعا طبيعيا، والمجتمعات الطبيعية تقدس القيم الاجتماعية ولا تخرج عليها، تحترمها أكثر ما تخشي عقاب الإفلات أو كسر القانون. يطلق البعض علي ذلك "رأس المال الاجتماعي"، أي الشعور بالثقة بين الافراد، وتبادل المعلومات بينهم، وبناء علاقات علي أساس من الاحترام المتبادل. وبالطبع لا يخلق القانون، أو حتي يضمن حدوث رأس المال الاجتماعي، ولكن ما يحققه، ويدعمه هو الوجدان الشعبي، والضمير، والأخلاق. نعود إلي المجاهرين بالإفطار في رمضان. بالطبع الذوق العام يمنع أن يجاهر شخص بالإفطار في رمضان، ولكن لا يمكن أن يتحقق الذوق العام بالقانون، ولكن بالإخلاق، وإرتفاع في فائض المشاعر الإنسانية. فإذا كان صوم رمضان يشكل، فضلا عن المضمون الديني، مناسبة اجتماعية للتلاقي الاجتماعي، فإن الحرص عليه لا يكون بالقانون، ولكن بإستعادة إنسانية المجتمع المصري. فإذا فرض القانون صوم الناس، أو عدم مجاهرتهم بالإفطار، فهل سيضمن أن تكون أخلاقيات المصريين أفضل حالا، والواقع يشهد خلاف ذلك، من ارتفاع فائض العنف الجسدي واللفظي في المجتمع حتي أثناء شهر رمضان ذاته. مرة أخري، نريد مجتمعا طبيعيا يضبط سلوكه بالقيم، وليس بالقانون. وكل عام وأنتم بخير.