قصدت فوزي فهمي، فوعدني وهو جدير بالوفاء، كنت قد سررت بالإصدارات المختارة في مهرجان القراءة للجميع، الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، رسائل العدل والتوحيد، الخطط التوفيقية، وفطنت إلي لعبة السلطان، مسرحية فوزي فهمي، التي قدم لويس عوض مطبوعتها، ومثلها عبدالرحمن أبوزهرة وعايدة عبد العزيز ونور الشريف وأشرف عبد الغفور ومحمد وفيق وأخرجها نبيل الألفي، كان منطق المعتزلة في مسئولية الإمام وحرية الإنسان في الاختيار هو هواء النص ومياهه، لذا توقعت أن مشروع القراءة للجميع لابد سيضيف إلينا كتبا مثل موسوعة المغني، والمحيط بالتكليف وغيرهما من تراث المعتزلة الذي يعرفه الرجل ويراه حائط الحماية من التفكير اللاعقلاني، قصدت فوزي فهمي، لكن لسانه سبق لساني إلي ذكر زكي مبارك وكتابه النثر الفني، قلت له: يا دكتور أنا وريث زكي مبارك، وريثه الأكثر إخلاصا له من ابنته كريمة، التي لو أن أباها كان حيا لرفضها أديبة واحتضنها ابنةً وكفي، قلت لفوزي فهمي: مضت علي وفاة زكي مبارك سنوات تزيد علي الخمسين وكتابه الذائع: النثر الفني في القرن الرابع الهجري، اختفي من المكتبات، طبعته المصرية نفذتها المكتبة التجارية وكلاهما المكتبة والطبعة، أصبح ذكري، أما طبعاته اللبنانية فقامت بها دار الجيل والمكتبة العصرية، ونفدت كلها، قلت لفوزي فهمي: لم يكن فوزي فهمي محظوظا في عصره، فقد عاداه من عاداه، وهو ليس محظوظاً في ابنته التي تحاول أن تزيحه وتوقفه خلفها وتحجبه، وليس محظوظاً في دار الكتب المصرية، لأنهم طبعوا له نصف كتاب علي أنه كتاب كامل، ونبهت صابر عرب رئيس الدار، ولم يستبينوا الخطأ ويصححوه، وليس محظوظا في النثر الفني الذي خرج ولم يعد، قصدت فوزي فهمي وكان قد وعد نفسه، فوعدني، وهو جدير بالوفاء، وقصدت حلمي النمنم، فوعدني، وظهرت بشائر وعده، قلت له القول ذاته: أنا وريث إبراهيم عبد القادر المازني، وريثه الوحيد، أحببت قصر قامته وعرجه وتقلباته وثقافته وسخريته ولامبالاته وإتقانه ما لا أتقن وانصرافه عن السياسة وعن الناس، أدرك المازني منذ وقت مبكر، أن الانغماس في الناس يورث ضياع الحق وإيثار المجاملة، والخوف من الصراحة، قلت لحلمي النمنم: لو يكمل المجلس الأعلي للثقافة طباعته لأعمال المازني الكاملة، قبل موتنا، فوعدني، وصدرت ثلاثة مجلدات، وبقيت ثلاثة، لعل شباب اليمين وشباب اليسار يقرأون المازني ذات يوم، أغلب مثقفي اليمين كانوا في بدايتهم يساريين، هكذا يمكن أن نتذكر صلاح عيسي وعادل حسين ومحمد عمارة وجابر عصفور، فمثقف اليسار يكون دائما وأبداً هدفاً منشوداً لكل سلطة عابرة أو سائدة، إنه عرضه إغراءاتها المتكررة، وضحيتها، ولكي يقاوم، وبعضهم يقاوم، أنظر بشير السباعي وسمير أمين وفاروق عبد القادر، يلزم ألا يقاوم بمفرده، تلزمه بيئة مقاومة، بشر وقيم، مثقف اليمين الوافد من اليسار، سرعان ما يصبح انتهازيا، نفعيا، أنانيا، براجماتيا بالمعني الدارج، وسرعان ما يتخلي عن ماضيه، وعن تفكيره النقدي، في سبيل الاستمتاع بالملذات العديدة المتاحة له، بوجوده الطاغي في وسائل الإعلام وعلي يمين الحاكم، وفوق رأس المحكوم، وبتخليه الواضح عن وظيفته الثقافية، وهي تصويب النقد نحول السلطة المسيطرة، وباستلقائه علي فراش ناعم وثير اسمه النيوليبرالية أو التنوير، وبإصراره علي تبرير صواب رؤسائه والهجوم علي الحالمين والأشرار الذين يبحثون عن فردوس مفقود وعدالة ضائعة، كان إبراهيم المازني يعرف بسليقته السوية إنه لن يشارك هؤلاء في ركوب قطارهم، فهم يجرون ويتسابقون داخله، وهو مسكين أعرج، هم نشطون عمليون، وهو عدمي كسول، هكذا يمكن أن تصفه إحدي الشاعرات الفواطم، كان إبراهيم يعرف أنه لن ينام علي مقاعد المحطات، لأنه ألف النوم في بيوت مفتوحة علي المقابر، عرفت إبراهيم جاري العزيز من زمان، عرفته بئراً يفيض ماؤها، وسائر البشرْ، تمُّر لا تشرب منها، لا ولا ترمي بها، ترمي بها حجرْ، قصدت حلمي النمنم فوعدني، ووفّي، ومازال في الوعد بقية، وقصدت أحمد مجاهد، فوعدني، لأنه يتمني من المثقفين جميعاً أن يقترحوا عليه ويشاركوه سلطاته، قلت له: ذاكرة الكتابة والذخائر عنقودان يفخر بهما من يصدرهما، مات رجاء النقاش وتحته ذاكرة الكتابة، وكانت تحفته الأخيرة، ولم يقصر الذين خلفوه، وظلت الذخائر سالكة سبيلها في حقل نارٍ آمل أن يزداد اشتعالاً، تمنيت علي أحمد مجاهد، لو أن الذاكرة تنتبه إلي بعض تراثنا المصري القريب، إسماعيل باشا صبري، ولي الدين يكن، حسين شفيق المصري، بشر فارس، أحمد فتحي علي يد العارفين به، محمد عبد الغني حسن، محمود عماد، عبد الرحمن صدقي شعره من وحي المرأة وكتابه الجميل المنسي (الحان الحان)، وهو عن أبي نواس، محمود البدوي، العقاد في كتابيه سعد زغلول الطبعة الأولي الكاملة، وخمسة دواوين في مجلد واحد صدر عن هيئة الكتاب، وكتبه فنون وشجون، ومواقف وقضايا، والمرأة ذلك اللغز، وكتاب نادر في بابه صنعه الشاعر علي الجندي، هناك ثلاثة يحملون هذا الاسم، السوري الشاعر الذي مات هذا العام، والأكاديمي المصري الأستاذ بدار العلوم، والمصري الآخر وهو شاعر ودرعمي، كتب الأخير كتابا عقب عودته من أحد مؤتمرات الشعر، خاطب فيه الشاعرة السورية طلعت الرفاعي، يبلغها ماذا وكيف تأكل وتشرب وتمشي وتنام وتحلم لتظل علي جمالها، الكتاب بطرافته ورقته يبدو وكأنه أحد نصوص ما بعد الحداثة، عنوانه ضاع من رأسي، تخايلني فيه كلمه الأحمر أو الحمراء، فاروق شوشة وعبد اللطيف عبد الحليم وأحمد حسين الطماوي، أحدهم يمكن أن يستدل علي الكتاب ويدل عليه، تمنيت علي أحمد مجاهد أن تنتبه الذخائر إلي ذلك التراث المنبوذ، أكثر من انتباهها إلي بعض تراث دارج، تمنيت أن تضع كتاب النظام وهو موسوعة تشمل شروح المتنبي وأبي تمام، أن تضعه بين أيدينا، وأن تمنح تراث الفنون البصرية المقام الذي يستحقه، فنعتاد النظر إلي الواسطي وغيره، الرجال الثلاثة فوزي فهمي وأحمد مجاهد وحلمي النمنم من قيادات وزارة الثقافة ولو تفاوتت الأدوار والأفكار والمقامات شاغلوني، وشغلوني فتخيلت لوهلة أن البعض قد يراهم ويراني بينهم وكأننا أعضاء في محفل غريب، وهذا يوجب علي أن أعيد تكرار تلك الفكرة التي لا أملّ تكرارها، أن المؤسسة الثقافية ليست شراً كلها وليست خيراً كلها، وأن القطيعة التامة معها مطلب يدعو إليه نفر غارقون إلي ما فوق رءوسهم في آبار عسل السلطة ولبنها، من تفرغ إلي طباعة إلي أسفار إلي آخره، وعندما يصعدون منصة ينتحل كل منهم وجهاً صفيقاً لبطل تافهٍ، ولا عجب فالانتحال شريعة وشطارة وأصحابه ينالون الجوائز، عموماً أهم من القطيعة غير المستطاعة وغير المغضوب عليها ولا الضالين، هو ضبط المسافة بينك وبين المؤسسة، ألا تكون بعيداً فتنعدم رؤياك، وألا تكون قريبا فيزول لحمك وعظمك وفؤادك، والمسافة لا قياس لها، إنها تختلف حسب السلطات والقيم والأزمنة والاشخاص، مع افتراض أنه في أزمنة السقوط تتسع المسافة حتي نتخيل إنها قطيعة، وفي أزمنة الصعود تضيق فنتخيل أنها ولاء، كان رفاعة الطهطاوي وطه حسين متعاونين مع سلطات صاحبة مشروعات نهضوية، صاحبة مشروعات استقلال، مما لا يصح معه أن نتخذهما أو نتخذ أحدهما خليلا ومثالا نقتدي به، لنبرر العمل مع سلطة بغير مشروع، آيتها الكبري تبعية لا مستقبل لها، رفاعة الطهطاوي وطه حسين ليسا أبوين لأحد من هؤلاء الذين يزعمون بنوة كاذبة، فهما سلالتان، الأولي حالمة وقد أحبطت أحلامها، والثانية واهمة وغانمة وقد صدقت مغانمها وأوهامها، ثلاثة رجال وحفنة أمنيات، نأمل أن تصبح فعلاً وواقعاً، وهم قادرون علي ذلك، للمازني كتاب شائق هو ثلاثة رجال وامرأة، وهاأنذا أتبعه بثلاثة رجال وحفنة أمنيات.