في الوقت الذي أقرت فيه الحكومة الإسرائيلية في الخامس والعشرين من مايو 2003 خطة خارطة الطريق بأغلبية 12 صوتا مقابل سبعة أصوات وامتناع أربعة عن التصويت، اعتمدت كذلك بأغلبية ساحقة مذكرة تضمنت العديد من التحفظات ورفضت سلفاً حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وقد أعلن زعيم الليكود آنذاك، أرييل شارون، أمام وزرائه قبل التصويت أن اعتماد تلك الخطة مثل - من وجهة نظره - "أهون الشرين"، وأن رفضها كان بمثابة "خطأ لا يمكن الوقوع فيه" مؤكداً أن "لا شيء سيتقرر دون موافقة إسرائيل". وقد كشفت هذه التصريحات عن الطبيعة "التكتيكية" للقبول الإسرائيلي لخارطة الطريق بغرض تجنب الدخول في مواجهة مع الإدارة الأمريكية التي قدمت ملف "السلام" كجزء من رؤيتها "للشرق الأوسط الكبير". فعلي خلاف الموافقة الفلسطينية غير المشروطة علي الخطة، سعي زعيم الليكود إلي كسب الوقت ليس فقط لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب من وراء الموافقة الإسرائيلية، ولكن أيضا لإحاطتها بكل ما يمكن من الضمانات التي تتيح له قدراً كبيراً من حرية الحركة والمناورة السياسية. وفيما يتعلق بالمكاسب، يمكن القول بأنه في مواجهة "ملف السلام" الأمريكي، وظفت إسرائيل بمهارة فائقة "ملف الأمن" لإفراغ الأول من مضمونه، فتمسكت بتنفيذ ما تضمنته خارطة الطريق في سطورها الأولي بوضوح والتي أكدت علي أنه "لن يتحقق الحل القائم علي أساس دولتين للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني إلا من خلال إنهاء العنف والإرهاب، وعندما يصبح لدي الشعب الفلسطيني قيادة تتصرف بحسم ضد الإرهاب"، كذلك ركزت الضوء علي المهام الملقاة علي عاتق أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في المرحلة الأولي من التطبيق والمتمثلة في "مواجهة كل من يتعاطفون مع الإرهاب وتفكيك القدرات والبنية التحتية للتنظيمات الإرهابية"، أما فيما يخص ملف التسوية فقد أمكن لها بنجاح العودة إلي نقطة البداية التي تضمنها اتفاق أوسلو قبل عقد من الزمان من ذلك، من خلال النص علي أن جميع قضاياه الرئيسية المتعلقة بالحدود، والقدس، واللاجئين، والمستوطنات يتم التعامل معها في المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل التنفيذ، دون تحديد تصورات واضحة لكيفية معالجة هذه الموضوعات الشائكة، والاكتفاء بالإشارة إلي "تسوية يتم التفاوض عليها بين الفرقاء علي أساس قرارات مجلس الأمن 242، 338، 1397، تنهي الاحتلال الذي بدأ عام 1967، وتتضمن حلاً متفقاً عليه، عادلاً ومنصفاً وواقعياً لقضية اللاجئين، وحلا تفاوضياً لوضع القدس يأخذ في الاعتبار الاهتمامات السياسية والدينية للجانبين، ويصون المصالح الدينية لليهود والمسيحيين والمسلمين علي صعيد العالم، ويحقق رؤية إقامة دولتين تعيشان جنباً إلي جنب في سلام وأمن هما: إسرائيل ودولة ذات سيادة مستقلة، ديمقراطية وقابلة للحياة هي فلسطين". وتجدر الإشارة إلي أنه بالإضافة إلي تصريحات لإرييل شارون خلال مقابلة صحفية مع مجلة نيوزويك الأمريكية قلل فيها من جهود الرباعية الدولية، التي أعدت الخطة، وكشف عن وجود خطة أخري يمكن تنفيذها، تم إعدادها، وفقا للمتحدث الرسمي باسمه، "بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية"، جاءت اللقاءات الإسرائيلية-الأمريكية التي سبقت الإعلان عن موافقة إسرائيل علي خطة خارطة الطريق لتزيد الأمور غموضاً، في ضوء التصريحات الأمريكية المتضمنة "تفهم" واشنطن "للتحفظات" الإسرائيلية، والتعبير عن أخذها في الاعتبار عند التنفيذ. وكما كان عليه الحال في المراحل السابقة لعملية السلام، أرسلت إسرائيل رسائل عدة في اتجاه تأكيد مواقفها من قضايا التسوية النهائية، ومن قبيل ذلك، تصويت الكنيست، في منتصف يوليو 2003، علي مشروع قرار قدمه حزب الليكود لا يعتبر الضفة الغربيةوغزة أراضي محتلة تاريخياً أو وفقا لأي اتفاقات وقعتها إسرائيل. وعلي أرض الواقع، تزامن ما أظهرته إسرائيل آنذاك علي أنه تفكيك لبعض المستوطنات العشوائية غير المأهولة، مع قيام مستوطنين بإقامة بؤر جديدة، كذلك سجل عدد المستوطنين زيادة ملحوظة، فوفقا لما أعلنته وزارة الداخلية الإسرائيلية في الرابع والعشرين من ذات الشهر، ارتفع عددهم في الضفة الغربية وقطاع غزة بمقدار 5400 شخص خلال النصف الأول من عام 2003، ليصل إلي ما يزيد علي 231 ألف نسمة، وقد عبر مجلس مستوطنات "يهودا والسامرة" (الاسم العبري للضفة الغربية) الذي مثل أكبر منظمات المستوطنين في بيان أصدره في هذا الخصوص عن ارتياحه لتلك الأرقام، معتبراً الاستيطان "أقوي من الإرهاب (الفلسطيني) واليسار (الإسرائيلي)"، وأكد كذلك علي أن النمو السكاني في المستوطنات سيكون أسرع في النصف الثاني من العام! وفي الوقت الذي نصت فيه خطة خارطة الطريق علي ضرورة التزام إسرائيل بوقف أعمال البناء في المستوطنات، نشرت الصحف الإسرائيلية، في نهاية يوليو 2003، عطاء تقدمت به السلطات لبناء 22 وحدة سكنية جديدة في مستوطنة نيفيه ديكاليم جنوبغزة، في أول عطاء من نوعه في إحدي مستوطنات القطاع منذ عامين سابقين، وقد أثار الإقدام علي تلك الخطوة التي تزامنت مع عودة رئيس الوزراء من واشنطن بعد لقائه مع الرئيس بوش الابن "لدعم تنفيذ خطة السلام" تساؤلات حول حقيقة النوايا الإسرائيلية تجاه عملية السلام برمتها، ومصداقية الموقف الأمريكي في تقديم الدعم الفعال لها ومتابعة تنفيذها. وقد لخص مستشار الرئيس عرفات آنذاك، نبيل أبو ردينه، الموقف قائلا: إن الحكومة الإسرائيلية إما أخطأت فهم رسالة الرئيس بوش التي حاول أن ينقلها للجانبين، أو أنها اعتبرت الرسالة ضوءاً أخضر لانتهاك خارطة الطريق. وفي واقع الأمر، فإن إرييل شارون لم يخف مطلقاً توجهاته في مجال الاستيطان. ففضلاً عن دوره التاريخي المعروف في توسيع رقعته، لم يتضمن قبوله لخطة خارطة الطريق علي الإطلاق تغييراً جوهريا في أيديولوجيته، وكان من الصعب النظر إلي تصريحاته عن ضرورة إقدام إسرائيل علي اتخاذ " تنازلات مؤلمة" إلا بالمفهوم الضيق، وفي إطار إستراتيجية تهدف إلي استثمار أية تنازلات يتم تقديمها في هذا الخصوص لتحقيق مكاسب جديدة للدولة العبرية. وجاء خطابه أمام الكنيست في الثاني والعشرين من يوليو 2003 ليؤكد تلك الرؤية: "إن مستقبل المستوطنات في يهودا والسامرة وفي قطاع غزة سيتم بحثه فقط عندما نصل إلي المفاوضات حول الوضع النهائي، وليس لدينا أي نية لبحث ذلك في الوقت الراهن، وليس من مصلحة إسرائيل أن تفعل ذلك حالياً". وفضلا عن ذلك، أكد شارون أن "مسألة المستوطنات مسألة داخلية إسرائيلية"، وإن أقر بأن كثيراً من قادة العالم، وحتي من بين أفضل أصدقاء إسرائيل، احتجوا علي هذه المستوطنات. وأخيراً، انتقد شارون الربط بين مسألة المستوطنات العشوائية وتلك "المرخص لها"، قائلا إن الذين يربطون بين المستوطنات غير المرخص لها بالمستوطنات الشرعية، سواء كانوا من اليمين أو اليسار يرتكبون خطأ فادحا ويلعبون لعبة الأعداء".